صفحات سوريةغازي دحمان

ولماذا لا يجرّب دي ميستورا؟/ غازي دحمان

للمرة الثالثة، وربما لن تكون الأخيرة، تعمل الأمم المتحدة على تجريب سياساتها على الجسد السوري الممزق، وكأن صناع السياسة في المنظمة الدولية الأكبر في العالم، يجدون في المأساة السورية متنفساً وهامشاً، بل وفرصة لطرح الأفكار المترفة، وليس أدل على ذلك أن المنظمة دائماً ما تبحث عن شخصيات انقطعت عن متابعة تطورات الاحداث، وبخاصة في منطقتنا، لتكون أدواتها في طرح الأفكار!

النظام السوري، رغب مشاركة الأمم المتحدة مواسمها التجريبية، فاقترح عليها تجربته في «حل الصراع في حمص» وتمنى عليها تطبيقها بدل فكرة «تجميد الصراع في حلب»، وبما ان دي متستورا بصدد الخوض في تجربة، وليس لديه مبادرة متماسكة وواضحة، لم يجد أي إشكالية في الذهاب إلى حمص والاطلاع عن كثب على تجربتها، بالطبع ليس خافيا على أحد أن تجربة حمص أدت إلى تهجير مليون مواطن سوري من المدينة وتدمير مناطق بكاملها وتسويتها بالأرض، ثم إحراق سجلها العقاري وتغيير تركيبتها الديمغرافية، والمفترض أن الأمم المتحدة كانت على علم بهذه الوقائع، غير أن موافقة ممثلها على الاطلاع على تلك التجربة تضيف بعداً جديداً لتجريبياتها، وهي استهتارها بالدم السوري، فهل توافق الأمم المتحدة على زيارة معسكرات أوشفيتز للاطلاع على تجربة هتلر الناجحة في الإبادة؟

«تجميد القتال»، ليست فكرة جديدة في الخبرة الدبلوماسية الدولية، بل جرى تجريبها في النزاع الإيرلندي وحققت نجاحات معينة في تاريخه، علماً أن التجميد كتكنيك جرى ترحيله من عالم الطب «تجميد المرض عند مرحلة معينة لوقف انتشاره»، ثم بعد ذلك معالجة الخلايا التي ضربها المرض في مرحلة لاحقة، وهنا سؤال يطرح نفسه، أي المناطق التي سيتم حمايتها من سرطان الحرب الذي سيجري تجميده في حلب؟ وهل بقي مكان في سوريا لم يضربه بركان البراميل المتفجرة؟

جرّبت الأمم المتحدة تطبيق هذا التكتيك في البوسنة والهرسك عبر إقامة ما يُسمَّى بالمناطق أو الملاذات الآمنة، على أن تؤمن الحماية لعددٍ من المدن البوسنية من اجتياحات الصرب، وقد كانت مدينة «سربرنيتسا» ومدينة «جوارجدة» وغيرهما ضمن هذه الملاذات. وبمقتضى ذلك، قامت قوات الأمم المتحدة بتجريد تلك المناطق من أي وسيلة للدفاع، ومن ثم وقفت عاجزةً عن التصدي للصرب الذين اعتقلوا المراقبين الأمميين، ومن ثم أغاروا على مواقع البوسنيين مرتكبين مجازر عدة، أفظعها مجزرة «سربرنيتسا» التي راح ضحيتها نحو 8 آلاف شخص، فهل ثمة مساع لاستعادة مثل هذه التجربة؟

غير أن تجريب الأمم المتحدة، في نسخته الجديدة، لا يكتفي بالأعطاب الكامنة فيه بل أنه يؤسس، في حال اعتماده وإخراجه إلى حيز التطبيق العملي، لجملة كمائن خطيرة سيجري نصبها في طريق سورية المستقبلية، ذلك أن هذا الطرح يشرعن وضعية «أمراء الحرب» على طرفي الصراع، وذلك إنطلاقا من التفسير الدولي لطبيعة الأزمة في سوريا، والمائل إلى اعتبارها حرباً أهلية وبالتالي تساوي المسؤوليات بين أطرافها، وليس مصادفة هنا ان تتوقف وزارة الخارجية الأميركية عن دعم اللجنة الخاصة بالتحقيق بجرائم الحرب في سوريا! كما أنه يشكل بداية تقسيم «ناعم» لسوريا، إذ ينطوي هذا الوضع على ترسيم المناطق التي تحت سيطرة الأطراف وتحويلها إلى عنصر تفاوضي أساسي ودائم. وهو الأمر الذي يناقض التكتيك الذي تنبني عليه المبادرة من تحويل الحالة إلى دينامية تصالحية شاملة، فهذا التكتيك الضعيف والساكن تلغيه جدلية الصراع المحتدمة. من ناحية ثالثة، فإنه ينطوي على تسطيح واضح للأزمة ومقاربتها نمطيا، باعتبارها أزمة، من ناحية تعريفها النظري، وبالتالي اقتراح حلول نجحت في حل أزمات أخرى، من دون أي اعتبار لتاريخية الأزمة وطبيعتها، والواضح أن ترحيل «الحل الإيرلندي« ينبني على أساس نجاحه في صراع كان له بعد مذهبي في أحد جوانبه (كاثوليك بروتستانت)، على أمل نجاحه في حل الصراع السوري ذي الطابع المذهبي (سني وعلوي) حسب اعتقاد خبراء الأمم المتحدة التجريبيين.

لكن اللافت في كل هذا السياق، أن تجريبيات الأمم المتحدة، ليست نقية بالدرجة التي قد يعتقدها البعض أنها نتاج تأملات يجريها بعض المتقاعدين، ويجعلونها مثل مباريات الاعتزال والتكريم لتاريخهم الحافل، بل غالبا ما يصار إلى تطعيم تلك التجارب ببعض الرؤى السياسية المتناثرة هنا وهناك حول الأزمة السورية، إذ من الواضح أن الفكرة هي صدى لطروحات دولية تتحدث عن ان الخلاص الوحيد للأزمة السورية صار غير ممكن إلا من خلال التقسيم، وتحديد مواقع كل طرف، واعتبار ان الجميع على القدر ذاته من المسؤولية، وبالتالي الانطلاق من هذا الوضع لحل الأزمة، أو إذا اتبعنا مبدأ حسن النية، فإننا سنجد في هذا التجريب صدى لتعزيز فكرة الهدن المحلية التي تدعمها روسيا وإيران، وتريان أنها الحل الأنسب للأزمة السورية. وفي هذه الحال، فإن بقاء الأسد واستمراره في المعادلة السورية سيكون مضموناً وشرعياً!.

ربما تلك هي مكافأة الأمم المتحدة للشعب السوري على تضحياته، ومن حق دي متستورا أن يجرب. معه كامل الوقت، ما دام الدم النازف ليس سوى دم السوريين، ومن حقه ألا يجرب زيارة مخيمات اللجوء ولا السجون التي يخرج منها كل يوم عشرات الجثث على شكل هياكل عظمية، ذلك ربما يفسد على المنظمة تجاربها الفذة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى