أكرم البنيصفحات سورية

وماذا لو طال أمد الصراع السوري…!/ أكرم البني

«سوف يستمر النزاع الدموي في سورية لسنوات عدة»، عبارة تردد اليوم باستسهال واستهتار لافتين، ربما لأن أي حدث مهما كان مؤلماً وقاسياً يصبح مألوفاً بتكراره، وربما بسبب وضوح حالة الاستعصاء وعجز كل طرف عن تحقيق انتصار أو قلب توازنات القوى، أو لوضوح عناصر تجدد الصراع جراء قوة ارتباطاته الاقليمية والعالمية وتجزّر دوافع خوضه كمعركة حياة أو موت، وربما بسبب وصول المبادرات السياسية على تنوعها، وآخرها مؤتمر «جنيف2» إلى طريق مسدودة، ربطاً بعودة التوافق الأميركي- الروسي إلى المربع الأول وانحسار الأمل ببناء إرادة دولية تضع حداً لعنف منفلت وتفتح الباب أمام حل سياسي.

ومع استمرار الصراع لا يمكن النظر إلى المشهد السوري إلا ككارثة إنسانية تزداد حدة وعمقاً، تبدأ من حجم الدمار وأعداد الضحايا والمفقودين، ثم تحول ملايين السوريين إلى لاجئين في بلدان الجوار ونازحين في طول البلاد وعرضها وقد فقدوا كل ما يملكون أو يدّخرون، وتصل إلى ما عرضه تقرير اليونيسيف عن مستقبل «معلق في الهواء» لحوالى خمسة ملايين ونصف المليون من أطفال سورية في ظل استمرار العنف والحصار وانهيار الخدمات التعليمية والصحية وتفشي الأمراض والاضطرابات النفسية بينهم، ما ينذر بتدمير جيل كامل.

لا نضيف جديداً عند التشديد على مسؤولية النظام تجاه ما حصل بإنكاره الأسباب السياسية للأزمة والتوهم بأن خيار العنف يمكن ان يعيد الأمور إلى ما كانت عليه، أو إرجاع الأمر إلى سلبية المجتمع الدولي وتقصيره المرير، أو إلى واقع المعارضة السياسية الضعيفة والمشتتة والتي لا تزال تنوء تحت ثقل نزاعات لا طائل منها، أو الى تنامي حضور قوى إسلاموية تحمل أجندة متطرفة تمكنت في غير مكان من مصادرة روح الثورة وقيمها، لكن الجديد هو شيوع حالة من الاستقطاب الحاد والتفشي المفزع للغة الحقد والعنف بين الناس محفوفة بإصرار على إنتاج مقولات وتعليقات، أقل ما توصف بأنها غير مألوفة إنسانياً، وتكشف عن توحش وهمجية غريبة على روح الشعب السوري وتاريخه.

أمر مؤسف أن تظهر مواقف تثير الرعب لا تجد الآخر المختلف سوى حشرة دخيلة مصيرها السحق والفناء، وأمر يدعو إلى الأسى والحزن أن ترى أمارات الرضا وأحياناً الفرح في عيون البعض مما يخلفه العنف من خراب وألم ومعاناة، وكأن ليس من بشر يقتلون ويشردون وكأن ليس من بنيان وطني يخرب، وكأن الأطفال الذين يخطفهم الموت من أحلامهم لم يكونوا رفاقاً لأطفالهم، وكأن الضحايا الذين يسقطون بهذه الوفرة لم يكونوا يوماً إخوة في الوطن، ومنهم الجار والزميل في الجامعة والعمل.

وإذ نعترف بأن طول زمن الصراع سيفضي إلى إفراغ الأسوأ من احشاء مجتمع تعرض للقمع والإلغاء لعقود من السنين، نعترف أيضاً بأن الإمعان بالعنف والتنكيل ضد فئات محددة وتحويل الصراع معها إلى صراع وجود، ستدفع النسيج البشري المتعايش منذ زمن طويل نحو العداء والتفكك، وتزيد الضغينة والحقد وروح الانتقام، وتشجع تبلور عصبيات متخلفة تحكمها نزعات إقصائية تهدد مفهوم المواطنة ووحدة المجتمع وعناصر تماسكه وغناه الإثني والديني، لتتسع الهوة بين أبناء الشعب الواحد إلى درجة يظهرون عندها كأنهم يعيشون في عالمين متوازيين، وكأن كلاً منهما لا همّ له ولا غرض سوى إقصاء الآخر وإفنائه.

ليس من هدف مهما علا شأنه يبرر اندفاع أبناء الوطن لقتل بعضهم بعضاً، وليس من دافع مهما منح من القدسية يبرر هذه الشحنة الهائلة من الحقد والكراهية التي يتم نشرها وتعميمها بين الناس ليغدو دم الصديق مباحاً ودم الجار مهدوراً.

ويبقى السؤال: هل لا تزال ثمة نافذة مفتوحة بعد ثلاث سنوات من الصراع الدامي أمام حل ينقذ سورية من مزيد من الفتك والدمار؟

يعتقد البعض بأن العامل الأقدر على وقف العنف وحقن الدماء هم السوريون أنفسهم عندما تصل الأطراف المتصارعة إلى حالة من الضعف والإنهاك واللاجدوى، وتخلص إلى قناعة بعبثية استمرار صراعها الدموي وبأن الجميع سيخرج خاسراً منه، ما يسمح بمحاصرة جماعات التطرف ودعاة العنف والغلبة ويعزز الحاجة الى تقديم التنازلات والتهدئة، كما حصل برأيهم في عدد من البلدات والمناطق. بينما يعتقد آخرون بأن الأمر لن يؤتي أُكله إلا بقيام توافق عالمي جدي مشفوع بإرادة أممية حازمة تعمل على وقف العنف وتفرض حلاً سياسياً يرضي مطامح الناس على اختلافاتهم ويطمئنهم إلى المستقبل ويفتح الأبواب لبدء رحلة جديدة من التعايش.

«كفى، وليتوقف العنف» هي صرخة تتعالى وتتطلع أن تأخذ حجمها الانساني الحقيقي في مواجهة تصاعد الهمجية والبربرية. فالعنف مرفوض، مهما تكن دوافعه وذرائعه، ليس فقط لأنه في جوهرة احتقار للإنسان، وعدوان سافر على الحياة، وإنما أيضاً لأن المستفيدين الوحيدين منه، هم أعداء الحرية والتعايش، وقوى أصابها العمى الإيديولوجي ولا ترى غير طريق القوة والغلبة لفرض سطوتها.

ربما هو أضعف الايمان تغذية شعور السوريين الأصيل بأنهم شعب واحد ويحب الحياة، وبأن طريق العنف والإقصاء لن تقود سوى إلى استمرار دوامة الموت والإفناء المتبادل، وتالياً المثابرة على نشر ثقافة تؤكد من دون تردد أو تهاون أن الأعلى والأنبل في دنيانا هو الكائن الإنساني أياً يكن رأيه أو منبته، ثقافة تنبذ كل محاولات التمييز والاستفزاز وإثارة الحقد والبغضاء، وتظهر موقفاً مبدئياً ضد منطق الغلبة والإكراه في إدارة الصراع وضد أي خطاب إيديولوجي مسطح يحتقر حقوق الانسان ويستسهل قتل البشر وسفك الدماء لأغراض سياسية أو دينية، ثقافة لا يمكن من دونها أن نكون أوفياء للتضحيات العظيمة التي بذلت ولشعارات الثورة عن الحرية والعدل والكرامة.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى