صفحات الثقافةعلا شيب الدين

ومضتان عشبيّتان/ علا شيب الدين

 

 

الومضة: حياة متكثفة. كونٌ كثيف. صعقة مشرقِطة قُبيل العَود إلى العادي. تفجير قنبلة روحيّة قبل رحيل دائب. العشبيّة: حياة متدفقة مشلَّعة مشلّعة بلا هوادة. درسٌ في الأخلاق. رعشة روحية عقلية، في حلّ من الغيبوبة واللايقين حيال ما قد يولد جرّاءها. وُلدَ. أو لم يولَد ولن.

من 18 إلى 21 أيار أيام لا تُنسى

بعد أيام قليلة من مجيئي إلى لبنان، شاء لحياتي في طابعها “العشبيّ”، أن تأخذني في رحلةٍ ليست في الحقيقة سوى “ومضة”، لأيام قليلة، إلى إحدى المدارس (من 18 إلى 21 أيار 2015). خلال الأيام الومضة هذه، علّمتُ ربما وتعلّمت بكل تأكيد من أطفال سوريين لاجئين إلى لبنان، تتفاوت أعمارهم بين الثامنة والعاشرة. كانت تجربة “التدريس” تلك، بالنسبة إليّ، بمثابة تنفيذ جزئيّ، مقموع أيضاً وأيضاً، لِما أفكّر فيه وأحلم. كانت محاولة أخرى مقموعة أيضاً وأيضاً، للربط بين القول والفعل. بين الفكر والعمل. بين الكتابة والعيش. بين النص المحنَّط والحياة النابضة. نغَم ولقمان وابرهيم وبراءة ومحمد ومحمود وفاطمة وماهر… هؤلاء كانوا تلاميذي لأيام، أولادي وكَوني في العقل والقلب. حاولنا معاً على مرّ أيام، التفكير في تخطّي صعوبات ومآسٍ ومحَن من خلال اقتراحات وحلول قدّموها هم أنفسهم حين طلبتُ إليهم ذلك. بعضهم اقترح التخطّي عبر اللعب، بعضهم اقترح الدراسة، بعضهم اقترح الشغل، وبعضهم اقترح الفرح. هؤلاء الذين يحبّون البط والكرز والرياضيات واللغتين الإنكليزية والعربية، وغير ذلك مما عبّروا عنه كتابياً؛ وينبغي العلم هنا أن بعضهم لم يستطع التعبير من طريق الكتابة كونه لا يفقه الأحرف من أساسها، وإن استطاع كتابتها منفصلة، فإنه لا يستطيع توصيلها وإنتاج كلمة واحدة فقط منها (هذه كارثة إنسانية بلا أدنى شك)، هؤلاء غالباً ما يجد المرءُ نفسَه في حضرتهم أكثر مما هو عليه في الحقيقة.

في داخل الصفّ أو القاعة، كانت ثمة أكُفّ مفرودة كثيرة ملصقة بعضها إلى جانب بعض، على الحائط، حيث رسمَ كلٌّ من هؤلاء التلاميذ يده، استجابةً لطلبي، على ورقة بيضاء ولوّنها باللون الذي يحب، ثم أشهَرَ “لاءه” في أعلاها ضد ما يكره في الواقع ويمقت. أحدهم رفع كفّه المفرودة الأصابع في وجه الحرب، كاتباً “لا للحرب”، وآخر كتبَ “لا للفساد”، وآخر كتب “لا للغش”. “لا للأذى”. “لا للضغط”. “لا لمخالفة قانون السير”. “لا للضرب”… أحدهم اضطرّ إلى رسم كفَّين. أما سبب ذلك فكان الآتي: رسمَ في البداية كفّه المفرودة في وجه التخريب، “لا للتخريب”. وحين كنّا نحمل شمساً كبيرة مصنوعة لغرض تزيين القاعة بها، قال لزميله الذي عبّر عن وقوع الشمس من أيدينا بينما كنا نحاول تعليقها على الحائط: “ماتت الشمس”. قال له: “لا تكفر”. فقلتُ: “لم يكفر زميلكَ وصديقكَ. هو فقط اختار التعبير بطريقة شاعرية عن سقوط الشمس (أو غروبها مثلاً) بأنها ماتت”. حسناً، ارسم كفّكَ ثانيةً في وجه التكفير هذه المرّة؛ ففعلَ ثم كتبَ في أعلى كفّه المرسومة “لا للتكفير”.

راقَ لإحدى التلميذات مرّةً، أن ترسم علَم سوريا، فرسمت علم الدولة التقليديّ ذا الخط الأحمر والنجمتين (هذا الذي بات علم النظام في قبالة علم الثورة ذي الخط الأخضر والنجمات الثلاث). لم يُثر الأمر لديّ أدنى اعتراض، انطلاقاً من كون مشكلتنا في الأساس ليست مع علم الدولة هذا، بل مع نظام عسكري مستبد، ثم إن من واجب الثورة أن تحتضن وأن تقدّم بديلاً أخلاقياً ممّا اندلعت ضدّه أصلاً. فيما رسم تلميذٌ آخر علم الثورة الموصوف. كان في القاعة جوّ من احتضان العلمَين، لكننا لم نعلّق أيّاً منهما على الحائط أسوة بالرسومات الأخرى كالبيت والشجرة وغيرهما، حرصاً منّا آنئذ، على فصل العملية التعليمية والتربوية عن السياسة، على الرغم من صعوبة فصلهما نظرياً وعملياً (في إمكاننا ربما أن نهزم دوماً، عبْر إنشاء عالم. عوالم).

حين انقطع التيار الكهربائي مرّة، بينما كنّا في القاعة نناقش قصةً قرأناها للتو، انتهزت إحدى التلميذات الفرصة لتعبّر عن رغبتها في أن يبقى الضوء مطفَأ دائماً، وحين عاد الضوء بعد لحظات، اقترحت التلميذة نفسها، إطفاءَ الضوء، ما أثار اعتراض آخرين من زملائها وزميلاتها. فاقترحتُ بدوري إجراء انتخابات ديموقراطية، حرة، نزيهة وشفافة، في شأن الموضوع مثار السجال هذا. رفع يدَه كلُّ مَن يريد الضوء، وكلُّ مَن لا يريده أيضاً، فكانت النتيجة لصالح مَن يريدونه. لكن التلميذة ذاتها واصلت اعتراضها على النتيجة، فدعوتُها إلى أن تتقبَّل “خسارتها” وتهنّئ زملاءها بالفوز، ففعلت ذلك بمحبة ورقّة. التلميذة هذه، ذات السنين التسع، يجلس – بطلب منّي- إلى جانبها في المقعد زميلُها الذي طالما قال إن “الصبيّ أفضل من البنت”، غير أنه جلس بعدئذ، إلى جانبها، كلّمها وكلّمته ببراءة وبندّية راقية، دونما أدنى اعتبار لترّهات من هذا القبيل أو ذاك.

ذات مرّة، طلبتُ إليهم أن يكونوا هادئين في أثناء غيابي عن القاعة لحظات؛ فهبّ أحدهم سائلاً: “مِس بكتبلك أسماء اللّي بيحكو بغيابك؟”، فاعترضتُ على أيّ نوع من أنواع الوشاية. قلتُ لهم: “أحِبّوا بعضكم بعضاً. فلتسقط المخابرات. فلتسقط التقارير”.

في الحديقة القريبة من المدرسة، أحببنا مرّةً أن نقرأ قصة، فكنّا بذلك “حدائقيّين” “أبيقوريين” مستمتعين بـ”لذّة” معرفية ممزوجة بنسماتِ حرية تلفح عقولنا في الهواء الطلق. كنا “مشّائين” أرسطيين أيضاً، إذ راح كلٌّ منّا يقرأ القصة ونحن “نمشي” جيئةً وذهاباً. من شدّة ما كانت “حديقتنا” جذّابة؛ انجذب الأطفال الذي كانوا مارّين بمحض المصادفة من أمام سور الحديقة، وانضمّوا إلينا، فاستقبلناهم بمحبة. راقَ لسيدة مسنّة أن تنضمّ أيضاً، فانضمّت ورحّبنا. في “حديقتنا الأبيقورية”، غنّينا وصفّقنا، وتأمّلنا، ولعبنا، قبل أن نعود أدراجنا إلى المدرسة، رائقين “متلذّذين” بيوم رائق.

سلامي إليكم يا أحبائي الصغار الكبار. من صميم الفؤاد أتمنى لكم النجاح الحقيقيّ في حياتكم. وأن تبقوا حالمين توّاقين.

بالضوء سكبتُ الوضوء

يوم أمس، لجأتُ إلى فيء شجرة في حديقة عامة صارت خاصة بعد حفيف الروح. الحديقة قريبة من البحر ومن إحدى ساحات بيروت الشهيرة. كان لا يزال هناك وقت لـ”أضيّعه” قبل أن يئنْ أوان موعدٍ في مكان “قريب جداً”. تحت الشجرة الوارفة، كان هناك شاب في العشرينات يعمل كحارس أمنيّ للمنطقة. أعطاني مكانه بمحبة حين استأذنتُه الجلوسَ بقربه على مقعد إسمنتيّ. قال لي اجلسي مكاني أفضل، وحين تردَّدتُ خجِلةً من أخذ مكانه، أكّد أنه في الأصل لا يحقّ له الجلوس. طبيعة عمله لا تسمح بذلك. شكرتُه وجلستُ. ولمّا مللتُ الانتظار؛ رحتُ أقرأ في جريدة بحوزتي. قرأتُ ثلاث مقالات عن بلدي سوريا، وحين همّت عيناي تغرورقان جرّاء ما أضافه على القراءة شوقي إلى أهلي وبيتي في سوريا؛ لففتُ الجريدة كسندويش، ورفعتُ ناظريَّ في اتجاه خيوط شمس متسللة من بين أغصان الشجرة، بينما كنتُ أهدِّئني بمونولوغ: “يجب ألا ينفرط عقد تماسككِ على قارعة الطريق في هذه المدينة الغريبة أو التي لا تزال”. كان الشاب لطيفاً إلى درجة أنه كلّمني بشكل طبيعي، دونما اكتراث بكوني صبيّة وحدها وغير ذلك مما هو سائد في مجتمعاتنا حين رؤية صبية وحدها (وهل من الضروري كلّما اجتمع رجل وامرأة، من طريق مصادفة أو تخطيط، أن يكون هناك اعتبار لغير كون هذين الكائنَين إنسانَين فحسب، وما من داعٍ، على جناح السرعة، إلى تعميق أي شيء بينهما؟!). في قبالة الحديقة ارتفعت أمامنا بنايةٌ ضخمة، ككل البنايات البيروتية التي لم ترُقْ لي كثيراً. فعلى النقيض من تلك الجبال التي شعرتُ أمامها كأني في حضرة الماهية الروحية الكلّيّة، شعرتُ بنفسي أمام بنايات بيروت، وقد استحالت إسمنتاً، ربما لأن الظروف لم تُتِح لي حتى الآن رؤية تفاصيل أخرى، غير بنايات إسمنتية ضخمة خانقة مقزِّمة حاصرة وحاسرة. المهم، كانت البناية تلك، مائلة إلى زرقة كئيبة متّشحة بالسواد، أما السواد البائن من الداخل، أعني من خلال هياكل النوافذ الكثيرة المرصوفة طولاً وعرضاً بدقة هندسية صارمة، ذوات الزجاج المهرور من درفاتها المخلّعة المتهاوية كلّها، فقد كان السواد ذاك، يتكلّم عن محض موت وبشاعة وكره وحقد وبغض لطالما استفحل هنا في هذا المكان يوماً. قال حارس المكان الأمنيّ الشاب، بعدما أوضح أنه “مش مع حدا. مع رغيف الخبز لولادو ولعيلتو وبس”: إن خراب البناية هذه وغيره، هو من بقايا الحرب الأهلية، واقتتال الأحزاب، حين شكّلت كل مجموعة من الناس حزباً وراحوا يقتتلون.

مرّت قرابة ساعة، قبل أن يحضر رجلٌ تشي هيئته بأنه في الخمسينات من العمر. بدا المكان، كريماً مناسباً لحَضن الصلاة أيضاً، فضلاً عن حَضنه المنتظرين، والهاربين من شمس حارقة. رفع الرجل أكمامه لعند الكوعَين، ثم راح ينقّل قنينة ماء بين يديه، مرّة يمسكها باليسرى لغرض سكب الماء في اليمنى، ومرة يمسكها باليمنى لغرض سكب الماء في اليسرى. لمّا رأيته متلبّكاً، وقفتُ بالقرب منه، حملتُ عنه قنينة الماء، وفي نيّتي مساعدته في الوضوء. مساعدته فحسب. بلطفٍ رفض الرجل “تعذيبي” (لا تعزبي حالك عمّو يسلمو)، فأصررت، وسكبتُ الماء في الراحتَين اللتين أخذتا شكل دعاء يدويّ مرفوع إلى السماء، لحظة تجوّفتا بالأصابع العشر بتقنيّة تحضن الماء وتمنعه من التسلّل خارجهما. شكرني الرجل بعيد الانتهاء من سكب الماء، وقال بما يفيد بأني الآن قد “كسبتُ أجراً”. قرأتُ ذلك أيضاً في نبرة صوته وفي ملامحه التي ظنّت بأني فعلتُ ما فعلتُ لـ”أكسب”. لـ”أربح”. لـ”أفوز”. أزعجني هذا. صمتُّ ولم أعرف كيف أشرح له أني لم أستغلّ تلبّكه في سكب الماء من أجل أي طراز من طُرَز “الأجور والأثمان”، ولم يكن في نيّتي غير المساهمة في بث ضوء روح إنسانية خالصة في المحيط. لم أعرف كيف أشرح ذلك كلّه، فقد كان الرجل منشغلاً منصرفاً بكليّته مريداً الصلاة وغير مهيَّأ للإنصات. لم أنظر إليه على الإطلاق، حين كان يصلّي، لأني لم أشأ أن يشعر بأنه مراقَب في صلاته، وكنت حريصة على ألاّ يصدر عن الجريدة التي قرأتُ فيها للتو مقالات كادت تودي بقلبي، أيُّ صوت قد يخدش انغماس روحٍ في صلاتها. حين انتهى الرجل؛ ودّعني بأدب، وبوجه حريص على عدم النظر في وجهي، وذهب. قال الحارس الأمنيّ الشاب، بتقزّزٍ طفق على وجهه على حين غرة كما بدا لي، بعد لحظات من ذهاب المصلّي، وبعد لحظات أيضاً من تأكيده لـ”حياده” حيال الناس أجمعين: إنه من “حزب الله”. قلتُ: وكيف عرفتَ؟ قال: من صلاته. ألم ترَي كيف صلّى؟ الحقيقة أني لم أنتبه كيف صلّى الرجل الذي لم أنظر إليه وهو يصلّي. لم تُثر فيّ انزعاجاً، “معرفتي” الجديدة بأن مَن كان يصلّي للتو هنا هو من “حزب الله”، ولم يُشعرني ذلك بالندم حيال سكبِ ماء الوضوء في راحتَيه. هذا على الصعيد الإنساني المحض. أما على صُعد أخرى سياسية وعسكرية وقانونيّة، فالحزب المذكور، هو حتماً عدوّ الشعب السوري. عدوّ بلدي سوريا. لا ضوءَ ها هنا حيال الحزب الطائفيّ المجرم هذا، بل محض مواقف شجاعة ونضال حقيقيّ يجب أن يستمرّ في سبيل الحرية. في سبيل طردِ كلّ مجرم دخل بلدنا الغالي في غير وجه حق، وأخرجَنا منه بكل معنى خسيس من معاني الإخراج.

كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى