صفحات سوريةنجاتي طيّارة

ومعركة الساحل أيضاً…/نجاتي طيّارة

أَثارت معركة الساحل في سوريا، والتي بدأتها فصائل إسلامية في الثورة السورية، ضد مواقع النظام الأسدي في شمالي اللاذقية قبل أسابيع، كثيراً من الضجة والنقاش، فوق ما أثارته من قعقعة الأسلحة. وكان من أبرز من أدلوا بدلوهم فيها، وتحفظ عليها، المعارض المعروف، الصديق، ميشيل كيلو، أحد قادة كتل الائتلاف الوطني، المنظمة السياسية الأوسع للمعارضة السورية.

كانت المعركة، وما أثير حولها، مناسبةً جديدةً لإعادة تعريف الثورة السورية، وتحديد هويتها، من حيث هي ثورة وطنية سورية، أم صراع طائفي وحرب أهلية، أم مؤامرة خارجية، دبرتها قوى دولية وإقليمية؟

وإذا كانت نظرية المؤامرة الخارجية حاضرةً دوماً في إعلام دول الاستبداد العربي خصوصاً، وعليها، كان يبرر تأجيل كل اهتمامٍ بقضايا التنمية الإنسانية، أساسه الاعتراف بالمواطن وحقوق الإنسان، وتقديم أولويات الأمن والدفاع ضد العدو الخارجي، أو المتسلل دوماً طابوراً خامساً. ووجدت هذه النظرية في الممانعة حصنها الأخير، وكان من تطبيقاتها بين ليلة تهديد وضحاها تسليم السلاح الكيماوي، الذي طالما أعدّته هذه الممانعة للتوازن الاستراتيجي، واستنزفت طويلاً من أجله مقدرات البلاد والعباد، فكشفت حقيقة موقفها في حماية النظام لا الوطن!

أما الثورة التي بدأت بشعاري الحرية والكرامة، والشعب السوري واحد واحد، وامتدت تظاهرات شبانها إلى معظم أرجاء سوريا، فقد سارعت المستشارة الرئاسية، بثينة شعبان، إلى اتهامها بالفتنة الطائفية منذ 24/3/2011. وعملت أجهزة النظام وشبيحته، وجيش دفاعه الوطني المنشأ مجدداً، على صبغها بصورة حثيثةٍ، ومعممةٍ بالصبغة الطائفية. فكان لابد للثورة من أن تعاني هذا الالتباس الوطني، من جهة انطلاقتها، كما هو مسلم به، بصورةٍ عفويةٍ في ظل انعدام الحياة السياسية، وغياب منظمات المجتمع المدني، وسيطرة منظومة الأب القائد الأمنية الشمولية. ولكن، أيضا، وخصوصاً في ظل التنوع الطائفي الذي طالما استغله النظام، واستثمر في إطاره شرعيةً، قامت على عصبيةٍ اجتماعيةٍ تقليديةٍ، حسب المفهوم الخلدوني، طالما أَنه كان نظاماً انقلابياً، مفتقداً أي شرعية دستورية وحداثية.

يبقى أن كثرة الحضور السني، وقلة الحضور العلوي والمسيحي وغيرهما، في الثورة، مسألتان واقعيتان، انسجاماً ليس مع النسب السكانية فقط، بل مع الاستثمار التآمري المذكور للنظام، والذي زاده التدخل الشيعي، المتمثل علناً في إيران وحزب الله، اختلاطاً طائفياً آخر. وفاقم هذا الالتباس الوطني تحول الثورة السورية من طابعها السلمي إلى العسكري، بعد تطور الحرب التي شنها النظام ضد شعبه، إلى صور غير مسبوقة في التاريخ، تمتعت بمشهدية إعلاميةٍ كونية وفاقعة. واستعمل النظام في ذلك مختلف الأسلحة التقليدية والحديثة، من البراميلية إلى الكيماوية، وبصورةٍ تدميرية للمدن والبلدات التي شهدت التظاهرات، وحمتها من مسلحي ما صارت تسمى مجموعات الجيش الحر، وسعوا ونجحوا، بدايةً، في تحرير مناطق واسعة من سيطرة النظام، قبل أن يتراجع تسليحهم، وتتعفن أوضاعهم، وتتسلط منظماتٌ مشبوهةٌ بينهم، في ظل طول استدامة الثورة، واستفحال الحاجات الملحة والطبيعية لبقاء الناس على قيد الحياة. فامتد ذلك التدمير من جنوب سوريا إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها، معمماً بذلك رعباً موظفاً ومطلوباً تلخص في شعار: متى حُررت دُمرت!

ذلك ما حدث في بابا عمرو والخالدية وحمص القديمة والمعضمية وداريا ودرعا البلد وحلب وديرالزور والرقة والقصير ويبرود وغيرها، وكان من حق سكان هذه المناطق أن يطلبوا تطمينات الآخرين على حياتهم وعرضهم وأرزاقهم. وذلك لم يحدث، على الرغم من مشروعيته، فقد كانت الحرب التي شنها النظام عليهم حرب وجودٍ، وإلغاء وطنيٍّ، على الرغم من كل طابع آخر أشاعه لها. ولم تعرف السنوات الثلاث الماضية من الثورة حرباً أهلية طائفية، بالمعنى الاصطلاحي المعروف، فليس هناك، حتى تاريخه، من توتسي علوي وهوتو سني، ولو بالمقلوب في سوريا. أقول: ليس هناك شيء من هذا، على الرغم من المذابح الفاجعية، والتي بدأها الشبيحة في كرم الزيتون والحولة والحوادث المأساوية والانتقامية المعتادة في مثل هذه الأوضاع.

واضحٌ، إذن، أن حرب النظام ضد شعبه هي حرب جيشٍ منفلتٍ من كل عقال سياسي، أو أخلاقي، فوق انفلاته الوطني، وأن على استراتيجية الثورة في ظل الظروف السائدة، وبالضد من استراتيجية النظام، أن تلجأ إلى استراتيجية الحرب الشعبية الطويلة الأمد، حرب الكر والفر، المعتمدة على هدف سياسيٍّ، يوحد نضال السوريين، من أجل مستقبلٍ ديمقراطيٍّ كريم لهم ولأبنائهم، ومضمونٍ أخلاقيٍّ، يربط تراثهم الحنيف بالقيم المعاصرة لحقوق الإنسان والمواطن.

وحرب الكر والفر هذه لن تتوقع الحسم، هنا أو هناك، في معارك صغيرة أو جانبية، بل من طبيعتها أن تشمل كل مناطق سوريا، بلا استثناء، وأن توجع النظام وتحاصره، في أي مكان من القطر، كما أن تعمل، عسكرياً وأخلاقياً، على فك ارتباط مجموعات المواطنين السوريين به، أينما كانوا، لكي يحسموا مع مسؤولية النظام المباشرة عن كل البلاوي التي شهدها البلد، وذلك منذ الخروج عن المسار الديمقراطي الذي أرساه آباء الاستقلال إلى مسار الانقلابات العسكرية وحكم الطغمة. لكن، وقبل ذلك كله، أن يراجعوا الأسباب العميقة، وغير المباشرة، لمثل ذلك الخروج، فيعيدوا بناء العقد الاجتماعي الوطني وتعريف الهوية الوطنية السورية، وهذا ليس غريباً عن مساهماتٍ سوريةٍ مبكرة، كان آخرها العهد الوطني لمؤتمر المعارضة السورية في القاهرة. وآن الأوان لثوار السلاح أن يسترشدوا بها، أو أن يقدموا بديلها الوطني الموعود.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى