صفحات سوريةمحمد دحنون

وهم “الحل السياسي”

محمد دحنون

 بوضوح: ليس ثمّة أيّ معنى  في الحديث عن “حل سياسي” للصراع السوري الدائر بين نظام الطغمة الأسديّة والشعب الثائر. ولا يقول الحديث عن “الحل السياسي” المزعوم شيئاً لكنّه يحجب أشياء. بوضوح أشد: لا يمكن “الحل السياسي” أن يكتسب معنىً صلباً وزخماً حقيقياً وإمكانيّة تحقق، إلاّ إن مالت، برجحان كبير، كفة المواجهة العسكرية القائمة لصالح أحد الطرفين المتصارعين. أي، تماماً، عكس ما هو قائم اليوم: توازن نسبي في ميدان المواجهة.

 ينشق العقل السياسي السوري، المتوفر منه على الأقل، حين يتعامل مع “الحل السياسي” الذي يدعو إليّه المجتمع الدولي والمستند إلى اتفاق جنيف الصادر في حزيران الماضي، كنقيض للحل العسكري. لا يمكن لذاك أن يتم بلا هذا. ولا لهذا أن يتم دون ذاك. هما وحدة واحدة.

 يكتسب الاستنتاج السابق شيئاً من المنطق والاتساق والوضوح بالاتكاء على العبارة الشهيرة “الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى” بعد معالجتها قليلاً، أي: حين تكون غاية الحديث عن “الحل السياسي”، في لحظة توازن القوى، التفاف قد يؤدي لحسم عسكري لصالح النظام أو يطيل عمر الصراع لا أكثر.

 المؤسف في الأمر أنّه لا يمكن انتظار الكثير من العقل السياسي السوري (المعارض طبعاً!) المنشق على نفسه، منذ اندلاع الثوّرة، بسبب تمزّقه بين سلسلة من الثنائيات التي حكمت رؤيته وتعاطيه مع ثوّرة الشعب في مراحل مختلفة ومن جوانب مختلفة. إذ يمكن ادراج ثنائيّة الحل السياسي والحل العسكري المزيّفة في مجموعة ثنائيات تشبهها؛ نتحدث عن: ثنائية معارضة الداخل ومعارضة الخارج، الكفاح السلمي والثوّرة المسلحة، حلفاء النظام وأصدقاء الشعب، مع جبهة النصرة أوضد جبهة النصرة…

 بالطبع، لا تصدر القراءة السابقة عن  اعتراض مبدئي على فكرة الحل السياسي. هي، بالأحرى، تصدر عن غياب الأرضيّة اللازمة للحديث عن مثل هذا الحل. وهي أيضاً، تصدر عن الاعتراض الجذري على الأساس الذي يُطرح لبناء الحل السياسي عليه: بيان جنيف!

 يستحق “البيان الختامي الصادر عن مجموعة العمل من أجل سوريا”؛ بيان جنيف، اسماً آخر: أمنيات جنيف. ليس فحسب بسبب العين “الروبوتيّة” التي ينظر من خلالها إلى الصراع الدائر في سوريا (فريقان متساويان تماماً، وفي كل شيء، يتحاربان لأجل السلطة!)، وليس فحسب لأنّ البيان لا يأتي على ذكر مستقبل الأسد الابن ومصير نظامه، ولكن أيضاً بسبب سقوط العديد من الاجراءات التي دعا البيان لتنفيذها بالتقادم من جهة، والتجاهل من جهة ثانيّة، والتصعيد الحربي الذي يناقض مضمون “أمنيات جنيف”. هذا فيما لو أحسنا الظن بالغايات السياسيّة لكاتبيه.

 من جهته، لم يقم النظام السوري ببادرة حسن نيّة واحدة توحي أنّه يأخذ دعوات البيان على محمل الجد: لم يطلق سراح المعتقلين. لم يوقف القتل والقصف بل انتقل إلى استخدام “أسلحة استراتيجيّة” في مواجهة قوى الثوّرة المدنيّة والمسلحة. باختصار، لم يفعل النظام سوى ما ينسجم مع جوهره بصفته: نظام العنف المحض.

الأسوأ، إن كان ثمّة أسوأ، أنّ “بيان جنيف” الذي يتحدث بعقليّة تقنيّة، لا يلحظ، إلا بصورة سطحيّة، التطلعات النبيلة لشعب الثوّرة، ولا المجزرة السوريّة المستمرة على يد نظام الأسد منذ ما يزيد عن السنتين، تنكّب مسؤوليّة الحفاظ على مخالب النظام؛ يرد في أحد فقراته حين يتحدّث عن “أجواء” المرحلة الانتقاليّة أنّه” من الواجب الحفاظ على الخدمات العامة….. ويشمل ذلك في ما يشمل قوات الجيش ودوائر الأمن”، لكن البيان لا ينسى أن يطالب “دوائر الاستخبارات… أن تتصرف بما يتماشى مع معايير حقوق الإنسان والمعايير المهنيّة”!

 ليس للمرء أن يتخيّل ما هي المعايير المهنيّة التي يمكن لعناصر المخابرات السوريّة أن يتصرفوا وفقها!

 خرج السوريون، سلميون ومسلحون، لتحطيم هذه الأجهزة أوّلاً، والميليشيات العسكريّة الطائفيّة التي تحمي قصور الأسد الابن ثانياً. يعلم السوريون المنتفضون أنّ حلاً سياسيّاً لأزمة بلدهم لا يمكن أن يأتي إلى على أنقاض آلتي الموت هاتين. جنحوا إلى السلم في مطلع ثورتهم: ينازعون النظام سلطته عبر الرغبة في المشاركة لا أكثر. واضطروا للحرب حين وقفت آلتي الموت سابقتي الذكر، مضافاً إليهما “الشبيحة”، فعلموا ألاّ سبيل إلى المشاركة إلاّ بالنزع التام لسلطة النظام القديم!

 في المحصلة، لا شيء جديدا وقع على الأراضي السوريّة يسمح بتعويم جدي وفاعل لـ” الحل السياسي”. اللهم، إلا دخول اسرائيل المعادلة.

 ولا يشكل إجماع القوى الدوليّة والإقليميّة و المحليّة، من روسيا إلى أميركا، ومن قطر وتركيا إلى إيران على تعويم الحل السياسي، سوى دليل على اهتزاز توازن تلك القوى جراء الضربة الاسرائيلية، ليأتي المؤتمر الدولي من أجل سوريا  ليقوم بمهمة “إظهار الانشغال” بالشأن السوري شكلاً، وإعادة ترتيب الأوراق مضموناً.

ليس ثمّة سوى نتيجة مضمونة واحدة لمؤتمر “الحل السياسي”: زيادة عدد الضحايا والمهجرين والنازحين والمزيد من خراب سوريا البلد. أو، قد يكون، محاولة التفاف عريضة على الثوّرة وعلى تضحيات الشعب الثائر لإدامة عمر النظام السوري: شرطي الحدود مع الدولة الاسرائيلية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى