مراجعات كتب

ياسين الحاجّ صالح: الثقافة قوّة سياسيّة بامتياز/ عمر شبانة

 

 

 

ما بين العمل على “إظهار ما هو سياسيّ في الثقافة”، وبين “كشف ممارسات سياسية في أعمال مثقفين، سوريين أساساً، تعطي انطباعاً بالتجرّد عن السياسة والابتعاد عن الصراع السياسيّ”، يخوض الباحث والكاتب والناشط السياسيّ السوريّ ياسين الحاج صالح صراعاً عنيداً مع عدد من أبرز أعلام الثقافة والفكر والإبداع السوريّين وغير السوريّين من العرب، أعني مع مقولاتهم وأفكارهم، ليثبّت مقولته حول العلاقة بين الثقافة والثقافيّين من جهة، وبين السياسة والعمل السياسيّ من جهة مقابلة، كما يسعى في كتابه الجديد هذا إلى تعرية “نظام الأسد”، وتفكيك بِنيته ذات الطابع “الاستعماريّ” حيال الشعب السوريّ.

لعلّ أوّل وأبرز ما يتفتّح أمام القارئ لكتاب ياسين الحاجّ صالح “الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت/ عمّان)، هو تصنيفه تركيبة المجتمع السوريّ ودولته ونظامه الحاكم، سياسيّا واقتصاديا واجتماعيّا وطائفيّا، ومن ثمّ ثقافيّا، عبر رؤيته لعالَم الثقافة والثقافويّة والثقافويّين، وتوزيعه إلى عالَمَين؛ ففي أساس تفكيكه هذا، يبلغ الأمر به أن يجد في سورية عالَمَين: “عالَم أوّل داخليّ” هو بمثابة “غرب داخليّ”، وهو ذاته عالَم السلطة والمثقفين “الثقافويين” المقرّبين منها، في مواجهة “عالَم ثالث داخليّ”/ “شرق”، وهو الشعب، ومن هنا يكون النتاج الفكري لمثقفي العالَم الأول كأنّه “استشراق داخليّ” في نظرته التي تشبه نظرة الغرب إلى الشرق بوصفه “عالَم ثالث”.

على هذا الأساس من تفكيك بنية الدولة/ النظام، يأتي ما يسمّيه المؤلف “نقد الثقافوية”، وهو عنوان أساس في  كتابه هذا، ليكون النقد الثقافيّ للثقافوية عملاً سياسيّاً بامتياز، لأنه “… فعل اعتراضٍ سياسيّ مباشر على هذا العالم الأوّل، وعلى نخبة السلطة التي تتماهى في سياسة “عالمها الثالث الداخليّ” بـ”العالم الأول”، الرأسمالي والمسيطر و”المتحضّر”، في سياسة العالم الثالث العالميّ في الأزمنة الاستعمارية”.

وهو إذ يقرّ بأنّ عمل المثقفين كسياسيّين عمليّين أمر سيئ، فهو يرى أن الأسوأ هو “زعم المثقف بأنّ مجاله هو الفكر أو الفنّ، وأنه لن “يُلوّث” نفسه بالسياسة وشؤونها”، لأنه “في مثل شروطنا الراهنة، قبل الثورة السورية المقتولة، وليس أثناءها فقط، هذا المسلك استراتيجية تبرّر الراهن دوماً، ولا تبرر غيره”، كما أنه يرى أن المشكلة في “الثقافوية” ليست أنها “نقد أحاديّ الجانب للثقافة، يتكتّم على الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكذلك الأوضاع الدولية، مما لا يستقيم فهم شيء في عالم اليوم دون أخذه في الاعتبار.. (مشكلة الثقافوية، بالأحرى، أنها لا تنتقد الثقافة ذاتها إلا بعد تقليصها إلى بُعدِها الموروث..).

رفض الحتميّات

لعلّ من أهمّ الخصائص التي تميّز “الثقافويّين”، السوريّين خصوصاً، ويرفضها المؤلف ويجادل حولها، خاصيّة تتعلّق بالنظرة الحتميّة، بل “الحتمويّة”، إلى العلاقة بين الواقع والتغيير، نظرة تكتفي بالبعد الثقافيّ كعنصر وحيد في عملية التغيير تلك، وهي بذلك تشبه تلك “الحتمية التاريخية” ذات الأصول الماركسية، من جانب، كما تشبه، من جانب آخر، تلك النظرة “السلفيّة/ الإسلامويّة” إلى التغيير المنشود. وكذلك خاصيّة “العموميّة” التي تميز “الثقافويّين” مدّعي العلمانية، وتجعلهم “انطباعيّين” بلا منطق، فيما نجد “الثقافويّين” الإسلامويّين يمتلكون “خصوصيّة” ما، وبرنامجاً شديد الوضوح.

ومما يأخذه الحاجّ صالح على الثقافويّين، في هذا السياق، أنه في حين نرى لديهم انتقادات قاتلة لجوانب من التراث، فإننا كما يقول “لن نجد عند أعلام الثقافوية السوريين نقداً لنمط إنتاج الأفكار، والعلاقة بين المعارف والتجارب، وتكوين الحقل الثقافي المحلّي، ومدى استقلالية المنتجين الثقافيين بأدواتهم وشروط عملهم، ولن نجد، من باب آخر، إشارات ناقدة لإدخال نخبة الدولة الأسدية مفاهيم مثل “البيْعة” و”الإجماع” و”المَكْرُمة” و”الأب القائد”، كمدركات أساسية تُسمّي العلاقة بين عموم السكان في سورية والحاكم، وتُسمّي أيضاً النكوص الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تمادى جيلين قبل تفجر ثورة 2011، وكانت السلطنة الأسدية مضخّته الكبرى”.

يتناول المؤلف طروحات ومواقف عدد من أبرز رموز الثقافة والفكر العرب، الفاعلين، ربّما كان أبرزهم أدونيس برؤيته الثقافوية التي “تضمر في الواقع أن التغيير في المجتمع مشروط بالتغيير الثقافي قبل كل شيء”، بحسب المؤلف. وكذلك الأمر في ما يتعلق برؤية جورج طرابيشي وعزيز العظمة وسليم بركات، ومحمد عابد الجابري وعبد الله العرويّ.. الخ، مؤكدا منذ البداية حتى النهاية على رفضه الحتميّات جميعا، ومركّزا انتقاداته اللاذعة للانطباعيّة والمواقف المسبّقة لدى البعض، خصوصا تجاه الإسلام السياسيّ، وعلى نحو أشدّ خصوصية لما يسمّيه تنميط الإسلام والإسلاميين (هوموإسلاميكس)، وهو تنميط نابع، كما يرى، من رغبة في ترهيب الناس من الإسلام، بما يسمح باستمرار الاستبداد.

كذلك لا ينجو الشاعر الروائي السوري الكردي سليم بركات، بل ينال حظّاً من التشريح والتفكيك لخطابه “العنصري”، في رد مطوّل على ما اعتبره الحاجّ صالح “مقالة عنصرية غثّة.. نشرت في “الحوار المتمدّن”، أواخر 2010، غداة موسم الثورات العربية، يستعيد فيها (بركات) معظم غثاء التفكير الثقافوي اليميني وأحكامه على “العربي” و”المسلم”، وبصورة كاريكاتيرية مُصفّحة بفصحى عربية ثقيلة..”.

زمن الغيلان وقوّة الثقافة

في فصل عن الغيلان الثلاث وأزمة الثقافة العربية، يقصد: الدولة والدين والمركب الغربي الإسرائيلي، يعمد المؤلف إلى تعريف “التغوّل”، ويتقصى أصول الهيئات الغولية، والعلاقة المحتملة بينها، وعما ينهض في مواجهتها من مقاومات، محاولا الكشف عن المعنى الثقافي لنشوئها، وإظهار دلالتها على أزمة كبرى في نظامنا الثقافي، يسميها “الأزمة الغولية”. كما يلاحق الذين يعلنون “نعمة” جهلهم بالسياسة، ويصمتون تماماً عن أي موقف تجاه القتل أو التعذيب أو الاضطهاد أو أي ظلم وقمع، فيعلنون أنفسهم كائنات مكرسة لـ”موهبتهم” و”إبداعهم” وحسب. ويرى أن هؤلاء “يضمرون موقفاً سياسياً يمكن اختصاره بانعدام الضمير والأخلاق، انعدام حس التعاطف أو الإنسانية”.

وهو يعيد الاعتبار للثقافة بوصفها “قوة سياسية بما هي ثقافة”، مؤكداً أن من واجب المثقفين التدخل في السياسة، خصوصا في أوقاتنا الدموية اليوم، و”أن يقولوا كلاماً واضحاً عن السلطة وعن السجن والتعذيب والعنف والتمييز والقتل والمنفى والكراهية والتحقير والتعصب والعنصرية”، حيث تكشّفت مزاعم “المثقف” وإصراره على تعاليه عن السياسة عن أن هذا التعالي غالبا ما يكون “قناعاً للانحياز إلى الأوضاع القائمة، ما يسمح له أن يجرّد نفسه من القدرة على إدانة قتلة آخرين، إدانتهم واجبة: داعش وأخواتها”.

وينتقد جيلاً من الكتّاب السوريّين لما يسمّيه “عجزهم عن تقديم قراءات جادة تتناول تكوين سورية وتاريخها، وما مرّ عليها من تجارب، وأخطار تفجّر الكيان وتفكّكه، وسبل تجاوز انقساماته”. لكنه يعترف بصعوبة الكتابة في سورية في ظل نظام من أعتى الديكتاتوريات، ما يدفع الكاتب السوري إما إلى تجاهل المرحلة الراهنة – وهو خيار كثيرين – وإما الكلام العمومي على العالم العربي والأنظمة والعالم الثالث والبلدان النامية.

وفي ما يتعلق بما يسمّيه “أزمة الجدار”، أي الجدار الذي بلغته الأزمة السورية، وتحت عنوان “الأزمة الوطنية ونهاية المثقف النبي”، يجيب على تساؤل عمّا إذا كان هناك من مؤشرات إلى ظهور نموذج جديد للمثقف “السوريّ”، يقاوم التمييز والقمع والتهميش، بدل منشدي العدم و”الخراب الجميل”، فلا يبدو متشائماً في هذا المجال، خصوصا مع التحول من “جيل الأبوات” القوميين واليساريين، إلى “جيل الأنوات”، وهم مثقفون وناشطون أفراد لا ينتسبون إلى هذا النوع من المنظمات، ولا يكفّون عن الانخراط في حروب المكانة.

في هذا الكتاب، وفي ما يخصّ سورية “الأسدية”، نحن حيال صورة غريبة من صور علاقة الحاكم بالمحكوم، هي صورة الحاكم بوصفه استعماراً لشعبه، ولو في الحد الأدنى من درجات الاستعمار، بحسب تنظيرات إدوارد سعيد ومدرسته في “الاستشراق”. حتّى إنّنا لسنا حيال الحاكم المستبدّ، لا العادل ولا غير العادل، لو افترضنا وجود العادل المستبدّ بحسب الفقهاء. وهذه علاقة لم تتمّ قراءتها في صورة كافية، خصوصاً هذه النظرة الاستشراقية من المثقف إلى “مواطِنيه”، المثقّف المؤمن بما يسمّيه الحاجّ صالح “الاستبداد المستنير”، في مواجهة ظلاميّات “الإسلام”. لكنّنا عرفناها في كتابات سابقة له أيضاً.

وعلى صحة وصدقيّة ما يعرض من مواقف تجاه البعض، والشعور بأهمية إعادة “الاعتبار” والتقدير للثقافة وللنقد الثقافيّ، سواء تعلّق الأمر بنقد “الثقافوية” عبر أسماء ورموز هي علامات في الثقافة العربية، أم تعلّق بأهمية أن يكون للمثقف دور وموقف من كل ما يجري حوله، في الوقت الذي يجري فيه تهميش المثقف والثقافة.. الخ، على أهمية ذلك، فإنّ القارئ قد يلمس حضورا لنبرة حادّة، الحدّة التي تنتمي أحيانا إلى عالَم الانفعالات، أكثر منها إلى عالَم التحليل المنطقيّ، خصوصا حين يصف مفكّرا أو مثقّفا بوصف “الفاشيّة”، من دون أن يكون هناك من التحليل ما يسعف باعتماده هذه الصفة، كما هو الأمر بالنسبة إلى جورج طرابيشي في موقف من مواقفه، من دون أن يشعر القارئ بعمق أو صدقية هذا الاستخدام لصفة الفاشية.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى