صفحات الحوار

ياسين الحاج صالح: أنا ملحد، لكنني لن أحارب داعش إن وضعت يدك بيد بشار الأسد من خلف ظهري

 

 

العنوان الأصلي: صوت “ضمير سورية” يوجه رسالة للغرب

عاش ياسين الحاج صالح حياة مليئة بالنضال من أجل بلاده. وكان ينظم أنشطة طلابية ضد الحكومة في ظل نظام حافظ الأسد، وفي عام 1980 اعتُقِل صالح ومئات آخرون، كم اتُّهِم بالانتماء إلى جماعة سياسية يسارية. وكان عمره (19 عام) فقط عندما أدانته محكمة مغلقة بارتكاب جرائم ضد الدولة، وأمضى صالح الأعوام الستة عشر التي تلت ذلك من عمره خلف القضبان.

يقول صالح الذي التقيناه في أحد المطاعم بالقرب من ساحة تقسيم في اسطنبول: “أحمل شهادة في الطب، إلا أنني تخرجت من السجن، وأنا مدين لهذه التجربة”. صالح الذي يبلغ الخمسين من عمره تقريباً، مع شعره الأبيض الذي يكسبه الوقار، يبدو عليه كمن يحمل هم العالم. ويلقبه كثيرون بـ”صوت ضمير” سوريا، كما يعمل أستاذاً في الجامعة. إلا أنه يتحدث بسخط حول ما يسميه “استعباد” سلالة الأسد للشعب السوري.

كان صالح يعيش في دمشق في العام 2011 عندما انتفض المدنيون السوريون للمطالبة بالإصلاح السياسي، وسرعان ما تحولت تلك الحركة الاحتجاجية إلى ثورة مفتوحة بعد أن واجهت القوات الحكومية المتظاهرين بإطلاق النار والقصف والاعتقالات الجماعية والتعذيب.

أما صالح فقد كان يعلم التكلفة المترتبة على تحدي نظام الأسد، وذلك بسبب تجربته المباشرة والمؤلمة. إلا أنه ومع بدء تلك الانتفاضة لم يتردد بالانضمام إليها. وغادر منزله ليمضي العامين التاليين يعمل في الخفاء في مساعدة الناشطين السوريين في تنظيم كفاحهم.

في أواخر العام 2013،  بدأت سوريا تنحدر لتدخل في حالة من الفوضى. وأصبح الصراع بين الحكومة ومجموعة من قوات المعارضة يتخذ طابعاً عسكرياً بصورة متزايدة، وكغيره من الناشطين الآخرين في الثورة، اضطر صالح إلى مغادرة البلاد مجتازاً الحدود إلى تركيا، وفي العام ذاته، قامت مجموعة مسلحة في ريف دمشق باختطاف زوجته إلى جانب ثلاثة نشطاء. كما اختطف تنظيم داعش أخاه في العام 2013، ولم يسمع عنه أخباراً منذ ذلك الحين.

وصالح اليوم واحد من بين ملايين السوريين الذين يعيشون في تركيا بصفتهم لاجئين. وسافر من بلاده لمساعدة الكتّاب والنشطاء السوريين في المنفى، وتدريبهم أثناء كتاباتهم وتحدثهم عن الأزمة في بلادهم. وبصفته يسارياً، كان ناقداً لاذعاً للإجماع الدولي المتزايد الذي وصلت به الأمور إلى رؤية الصراع السوري وفق مصطلحات بشار الأسد؛ على أنها معركة ضد الإرهاب.

نعرض لكم أدناه مقابلتنا مع صالح مع القليل من التعديل الطفيف والمكثف بغية التوضيح.

أخبرنا من فضلك عن خلفيتك الخاصة في سوريا.

كطالب جامعي في أواخر السبعينات، كنت عضواً في واحد من بين اثنين من منظمات الحزب الشيوعي المعارض للنظام بصورة نشطة. وفي ذلك الوقت، كانت هنالك انتفاضة في سوريا ضمت طلاباً ونقابيين ومحامين وأعضاء في مهن أخرى، وكل أولئك كانوا يناضلون ضد حكومة الأسد، فضلاً عن صراع منفصل بين النظام والإخوان المسلمين.

بالإضافة إلى ذلك، نشطت الإضرابات العمالية المنتظمة في مدينة حلب، حيث كنت أعيش، ورأيت بأم عيني قوات النظم تحطم أبواب المنازل والمحالّ التجارية.

ولكي تكون معتقلاً في سجون الأسد، لا تحتاج أسباباً لذلك. لكن في عام 1980 اعتُقِلت أنا ومئات من زملائي كجزء من حملة شنتها الحكومة لاختراق المجتمع السوري وتحطيمه.

كنت صغيراً حينها، كما كانت الأعوام الأولى في السجن صعبةً للغاية. عوملنا معاملة قاسية. أما في السنين الأخيرة فلم تكن ظروفنا بتلك السوء، كما سُمح لنا بإدخال الكتب والقواميس. تعلمت الإنجليزية داخل السجن، ولمدة 13 عاماً، كنت أقرأ ربما 100 كتاب أو أكثر سنوياً. وفي آخر سنة من اعتقالي نُقِلت إلى سجن تدمر الذي يعد أحد أكثر الأماكن وحشية على كوكب الأرض؛ فهو معسكر اعتقال للتعذيب والإذلال والتجويع والخوف، ثم أطلق سراحي عام 1996.

أما تجربتي في السجن فقد غيرتني وغيرت من أفكاري تجاه العالم. فقد كانت تجربة تحررية من عدة نواحٍ. إذ تنمّى لدي الاعتقاد بأنه لكي نحمي قيمنا الأساسية في العدالة والحرية والكرامة الإنسانية والمساواة، يجب علينا أن نغير من مفاهيمنا ونظرياتنا. إذ كان الاتحاد السوفييتي قد انهار وحصلت العديد من التغيرات في العالم، أما زملائي الذين رفضوا التغيير -أولئك الذين تمسكوا بطرقهم وسبلهم القديمة- وجدوا أنفسهم في موقف يحثهم على التخلي عن مبادئهم. وهذا أحد أسباب وقوف اليساريين اليوم ضد الثورة السورية، ذلك أنهم التزموا بمعتقداتهم الجوفاء بدلاً من معايشة كفاح الشعب من أجل العدالة.

ما الذي توقعته من اليساريين في استجابتهم للثورة السورية؟

كان الأمر صادماً لي في الحقيقة، فمعظمهم وقف إلى جانب بشار الأسد. لا أتوقع الكثير من اليسارية الدولية، إلا أنني ظننت أنهم سيدركون وضعنا ويروننا شعباً كان يناضل ضد نظام استبدادي، نظام فاسد للغاية وطائفي إلى حد كبير.

إلا أنني وجدت أن معظم الأشخاص في الحزب اليساري، مع الأسف، لا يعلمون أي شيء عن سوريا على الإطلاق. لا يعلمون شيئاً عن تاريخها واقتصادها السياسي ولا حتى الظروف الراهنة، ببساطة إنهم لا يروننا.

في أمريكا، تجد اليساريين يقفون ضد المؤسسة في بلادهم، فهم يعتقدون، بطريقة ما، أن مؤسسة الولايات المتحدة تقف إلى جانب الثورة السورية، وهو أمر زائف تماماً ولا يتعدى مجرد الكذب، ولهذا السبب، تجدهم يتخذون موقفاً مضاداً لنا. وينطبق هذا على جميع اليساريين في أي مكان في العالم، فهم مهووسون بقوة البيت الأبيض والمؤسسة في بلادهم. كما أن غالبيتهم لديهم هاجس يتعلق بنضالات حقبة الحرب الباردة القديمة ضد الإمبريالية والرأسمالية.

وفي أحد المناسبات  التي أقيمت مؤخراً في روما، عُرِضت صورٌ لأولئك الذين عذبهم الأسد وقتلهم، لكن ذلك الحدث تعرّض للهجوم من قبل الفاشيين. وقبل عدة أيام فقط من انعقاده هوجم الحدث في صحيفة شيوعية محلية تروج “للإمبريالية”.

هنالك تقارب متزايد بين وجهات نظر الفاشيين واليساريين حول القضية السورية وقضايا أخرى، ويعود السبب في ذلك إلى أن وجهات نظر اليسارية أصبحت بالية، إذ تراهم يولون اهتمامهم للقضايا السياسية العليا لا الكفاحات الشعبية. تجدهم يتعاملون مع الآيدلوجيات العظمى والروايات التاريخية، لكنهم لا يهتمون بالناس، فالشعب السوري ليس لديه من يمثله. كما يتمسك اليساريون بالنقاشات التي لا تمثل الصراع الإنساني أو الحياة والموت.

ما الذي ينبغي لليساريين ممن لديهم مفاهيم خاطئة أن يفعلوا تجاه سوريا؟

إن نظام الأسد -تلك العصابة التي تحكم سوريا اليوم- حولت البلاد من جمهورية إلى ملكية، وكما تعلم فقد ورِث بشار الأسد منصب الرئاسة عن والده عام 2000، وأنا لا أذكر بياناً واحداً صدر عن أحد اليساريين الغربيين يعترض فيه على هذا التحول من الجمهورية إلى الملكية، فقد أصبحت الدولة مُلكية خاصة للنظام، بينما تمت إعادة هيكلة الاقتصاد وفقاً لأجندة الليبرالية الجديدة.

إنه أمر متأصل في جينات هذا النظام ألا يمنح السوريين أية حقوق. نحن لسنا مواطنين، لا نستطيع أن نقول “لا” لحكامنا. ليس بإمكاننا أن ننضم لمنظمات ولا حتى أن يكون لنا دور في سياسة بلادنا، ناهيك عن تنظيم مظاهرات في الأماكن العامة أو المشاركة فيها بصورة فاعلة. إنهم يرغموننا على قمع أنفسنا. من الناحية السياسية، نحن شعب مستعبد في ظل هذا الحكم.

ينظر الكثير من اليساريين إلى سوريا ولا يعلمون أي شيء عن طبيعة العلاقة بين نظام الأسد والقوى الغربية. إذ لم يكن الأسد يوماً ضد الإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط على الإطلاق. بل في الحقيقة، لطالما سعى ليكون له دور في لعبة الإمبريالية في المنطقة، لكن لنفترض جدلاً أن الأسد قد كان ضد الإمبريالية، حتى في تلك الحال، سيظل السوريون جزءاً من تلك الصفقة! فنحن كشعب لسنا مجرد أداة لروايات اليسار الغربي. هذه بلدنا، ولسنا ضيوفاً فيها.

وعلى امتداد سنوات عدة ماضية، كان هناك في الواقع ما يسمى بـ “فلسطنة” الشعب السوري. كان النظام يعاملنا -والعالم أيضاً- على أننا شعب سيُباد سياسياً. ربما لن يقتلوننا جميعاً، فالبعض منا ما يزال على قيد الحياة على أية حال، و لم يقتل حتى الآن سوى نصف مليون تقريباً أو ما إلى ذلك. إلا أنه من الناحية السياسية،  يعملون على إبادتنا بالطريقة ذاتها التي يُباد فيها الفلسطينيون.

وفي الوقت نفسه،  هناك في المقابل “أسرلة” للنظام السوري. إذ يعتمد النظام السوري حالياً على حق النقض الخاص بروسيا، كما تعتمد إسرائيل على الولايات المتحدة وحق النقض لدى مجلس الأمن لحمايتها دولياً. ففي الصراع الإسرائيلي مع الفلسطينيين، فإن أحد الجانبين فقط -وهو إسرائيل- هو من يملك القوة الجوية، وينطبق الشيء ذاته على الصراع بين الأسد والمعارضة.

وأصبح نظام الأسد ممثلاً عن العالم الداخلي الأول في سوريا. وأعتقد أن النخبة في الغرب يجدون في بشار الأسد قبولاً أكثر من محاورين آخرين محتملين. فبشار الأسد يرتدي بدلات باهظة الثمن، كما يضع ربطة عنق. في نهاية المطاف، يفضّل أولئك فاشياً بربطة عنق على فاشيٍ بلحية.

كما أنه، في غضون ذلك، لا يروننا -نحن الشعب السوري- نحاول امتلاك زمام السياسة في بلده. لقد تحولنا إلى شعب غير مرئي.

ما هو موقفكم من الأحزاب الإسلامية؟

لدينا تحت مظلة الإسلام الكثير من الأشياء. هنالك دين المسلمين الذي يجب احترامه، كما يوجد الإسلام السياسي الذي يشتمل على أحزاب وجماعات يجب على المرء أن يتفاوض معها للتوصل إلى تسويات؛كحزب النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر. ومن ثم تجد ما أسميه (الجماعة العدمية) كداعش، التي يجب محاربتها. لكن إن أردت أن تنجح في محاربة تلك الجماعات، لا بد أن تعطي فرصة للسياسة. إذ لا تستطيع أن تعزل العدميين كالقاعدة وداعش دون أن تقدم شيئاً للأحزاب الأخرى التي تستطيع التفاوض معها.

بالنسبة لي، أنا رجل علماني ولست مؤمناً، أنا ملحد. لكنني لا أجد أنه من الديمقراطية أن تقاتل داعش وأنت تكره الإسلام والمسلمين وتعبر عن تشككك تجاههم، وتصرح في الوقت ذاته أنك لا تريد للإسلاميين أن يتولوا أي دور سياسي! هذا هو التطرف، هذا موقف متطرف وهو ما يبنى عليه التطرف الإسلامي الرجعي. فأنت بعدم قبولك للجماعات المعتدلة، تقول بأنك تؤيد المتطرفين.

كيف ترد على تصوير الغرب لنظام الأسد على أنه حصن للعلمانية في سوريا؟

أعتقد أن هنالك شيء من الإسلاموفوبيا في هذا الموقف، فنظام الأسد ليس علمانياً،  وأنت لا تحتاج إلى شيء يتعلق بالتقدم والتنوير لكي تكون مخلصاً لطائفة ما وتحارب الطوائف الأخرى. إنهم يوظفون الطائفية كاستراتيجية للسيطرة ووسيلة للاستيلاء على السلطة إلى الأبد. فضلاً عن أنهم يرددون في العلن في شعاراتهم الخاصة “الأسد أو نحرق البلد” و”إلى الأبد إلى الأبد” في إشارة إلى إحكامهم السيطرة على البلاد.

في العلمانية تكون فكرة عدم التمييز بين الناس على أساس دينهم أو مجتمعهم الطائفي فكرة متأصلة.  هل هذه هي الحال في سوريا اليوم؟ لا، ليست كذلك. فإن كنت علوياً، تكون فرصك في الحصول على وظيفة أو التمتع بسلطة حقيقية في المجتمع أكبر بكثير مما لو كنت سنياً أو عضواً في جماعة أخرى.

وبعد أن انطلقت الثورة، كنت في الغوطة الشرقية (قرب دمشق)، وقد قادتني رحلاتي إلى الأجزاء الغربية من حمص والرقة. وعند قدوم السلفيين، لم أرَ قط أن الناس يحتفلون بهم. لست أقول أن الناس كانوا غاضبين، لكن لم تكن تلك الجماعات تحظى بشعبية لدى الناس. الناس ضد النظام وهذه الجماعات ضد النظام، لذلك كان وجودهم يملأ تلك الفجوة.

ما الذي سمح للسلفيين والجماعات الأخرى باكتساب تلك الأهمية عقب الثورة؟

لمدة 30 عاماً، نظم حزب البعث مشروعاً لسحق الحياة السياسية في سوريا، لذلك عند قيام الثورة لم يكن لدينا أية منظمات سياسية، بل كان الأمر مجرد أفراد هنا وهناك. والإسلام في مجتمعنا هو حدّ الفقر السياسي، وعندما لا يكون لديك حياة سياسية، يتم تعبئة الشعب وفق أدنى شريحة من المجتمع الوهمي. هذه الهوية العميقة هي الدين. إذا كان لديك حياة سياسية وثقافية، من الممكن أن يكون هناك نقابات وجماعات يسارية وأناس قادرين على تنظيم الاجتماعات بوجود أي عدد كان من الهويات. لكن عندما تُسْحَق السياسة، وعندما تنعدم الحياة السياسية ستزدهر الهوية الدينية.

دعني أضرب لك مثالاً: تم التلاعب بأكراد سوريا طوال المدة التي حكم فيها حزب البعث، كما تم تقسيمهم، بل وأُنكر وجودهم كشعب كردي فيما كان يسمى “الجمهورية العربية السورية”. وعلى الرغم من هذا، كان من المسموح للأكراد وقتها أن يشكلوا تنظيمات سياسية. إذ لم يتم القضاء على أي من تنظيماتهم السياسية، وعندما كنت في السجن، كان كثير من أصدقائي ينتمون إلى تنظيمات سياسية كردية، وكانوا يقضون سنتين أو ثلاثة فقط في السجن ولم يصل بهم الأمر إلى قضاء 15 أو 20 عام.

لقد قضى حزب البعث على الحياة السياسية برمتها للسوريين العرب بمن فيهم الإخوان المسلمين، وعندما واجهتهم الثورة السورية، سعوا إلى سحقها أيضاً وهذا ما أدى إلى وجود تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وتنظيم داعش لا يعبّر عن الثورة السورية، إنما هو تعبير عن دمار المجتمع السوري والمجتمع العراقي من قبله.

بدأ بشار الأسد بتصوير نفسه كشريك للغرب في محاربة الإرهاب. ما الآثار المترتبة على قبول مثل هذا الادعاء؟

تعتمد رواية مكافحة الإرهاب التي تبناها الأسد، على تقوية الدول وتمكين الأقوياء ضد الضعفاء، فتلك الرواية تزيد من ضعف أولئك الضعفاء في الأصل، وهذا هو السبب في استخدامها ليقدم نفسه للعالم على أنه شريك في الحملة ضد الإرهاب.

من جهتي، لا أعتقد أن هنالك أي شيء ديمقراطي أو تقدمي فيما يخص هذه الرواية، أو الممارسات والمؤسسات ذات الصلة بفبركة الحرب ضد الإرهاب، وإذا عدنا إلى السبب في دخول العالم حالياً في أزمة، نجد أن الرواية العالمية الرئيسة اليوم ليست الديمقراطية ولا العدالة ولا الاشتراكية ولا حتى الإمبريالية، بل تتمحور برمتها حول الأمن والهجرة، وهذا يعني أن ترامب أفضل من كلنتون، ومارين لوبان أفضل من أولاند. كما يعني أيضاً أن الفاشي أفضل من الديمقراطي على الدوام، وبالتالي  بشار الأسد أفضل من المعارضة.

إن قبول رواية الإرهاب هذه يجعل من الناس -أمثالنا- ممن كانوا ناشطين في الثورة في مرحلة السلمية ومن بعدها في الصراع المسلح، يجعلنا غير مرئيين بالفعل. كل أولئك المعارضين للنظام ينتمون لداعش -كما يقول بشار الأسد طوال الوقت-  والخيار الوحيد المتبقي هو بشار الأسد.

إن قبول رواية الحرب ضد الإرهاب هذه تضعف وتقلل من قوة الأشخاص أمثالنا كما تضعف المنظمات والناشطين اليساريين والديمقراطيين والنسويين، في حين أنها تقوي وتمكن النظام والمتشددين.

الآن وبعد أن نفر الكثير من الناس من الإسلاميين بسبب ما شهدوه من ممارساتهم المروعة في مناطق عدة، هل هناك أية فرصة في أن تسترجع القوى العلمانية الناس إلى صفهم؟

نعم، لدينا فرصة في ذلك لكن بشرط عدم وجود الأسد. لكي نكون بديلاً حقيقياً في البلاد، لا يمكن لبشار وعصابته الذين قتلوا المئات والآلاف من الشعب أن يكونوا موجودين. أنا رجل يساري و ملحد أيضاً، لكنني لن أحارب داعش إن وضعت يدك في يد بشار الأسد من خلف ظهري.

وإذا كان الاقتراح المقدم ينص على “دعونا نركز على هزيمة داعش ومن بعدها ربما يكون له وجود”، لن أوافق على ذلك. إن ذلك الشخص الذي عذب شعبي وأهانه وقتله واحتقره – أقصد بشار الأسد – مجرم ولا بد من محاسبته، وستوفر هذه المساءلة أساساً للعلمانيين والقوميين والديمقراطيين للتنافس مع الإسلاميين المعتدلين كالإخوان المسلمين، كما ستمنحهم فرصة لمحاربة جماعة داعش العدمية. إن تنظيم داعش وبشار الأسد، على حد سواء، قوى متطرفة يجب أن تُسْتأصَل بغية بناء سورية شاملة.

ولست أقول أن الأمور ستكون على ما يرام عندما تختفي هذه الجماعات، بل سيكون هناك مشكلات عظيمة يجب أن نعالجها في المجتمع السوري. لكن الآن، أليست لدينا مشكلات في سوريا؟ هناك المآسي والمجازر والظروف الإنسانية المريعة.ٍ لدينا بلداً مدمرة ومجتمعاً مهدماً. عند رحيل بشار الأسد وداعش، بإمكاننا أن نأمل بوجود ديناميكية لإعادة البناء والمصالحة، بحيث يستطيع السوريون أن يبداأوا باستعادة بلدهم سوية. لكن طالم أنه موجود، لن يكون ذلك ممكناً.

ماذا تقول للذين أقروا بأن بشار الأسد طاغية ولكنهم يحتجون بأنه أقل شراً من داعش، لذلك ينبغي أن يبقى في السلطة للحفاظ على الاستقرار؟

بالنسبة لنا كسوريين، ودعني أكون صريحاً: داعش أهون الشرين. فقد قتل هذا التنظيم قرابة 10.000 شخص، بينما قتل بشار الأسد مئات الآلاف. هلا سألت نفسك كيف يستطيع أي كان أن يتقبل وضعاً كهذا؟ هل تستطيع أن تتصور أنه بعد 10 أو 15 سنة، وبعد سحق المعارضة، ربما يأتي ابن بشار الأسد ليحكم البلاد من بعد أبيه؟ هذا فظيع وإجرامي للغاية.

في حال أفلت بشار الأسد من العقوبة، بعد قتله مئات الآلاف من السوريين، وتغريب خمسة ملايين آخرين، وتهجير ستة ملايين داخلياً، ودعوة الإيرانيين والروس والميليشيات الشيعية من جميع أنحاء العالم  لغزو سوريا، إن تمكن مثل هذا المجرم البغيض من النجاة والبقاء في سلطته السياسية، سيكون العالم عندها مكاناً أسوأ بكثير للجميع.

ما رأيك في احتمال التدخل الغربي في سوريا؟

أولاُ، إنه لمن الكذب أن نقول أن الدول الغربية لم تتدخل في سوريا، والحقيقة هي أنها قد تدخلت بعدة طرق محددة حالت دون سقوط الأسد وضمنت دمار البلاد، فالولايات المتحدة ضغطت على تركيا ودول أخرى في وقت مبكر من الثورة لمنعها من تقديم الدعم الحاسم للمعارضة السورية. وبذلك، صوتت هذه الدول لإسقاط الأسد بالقوة من قبل شعبه. وفي غضون لك -كما ترى- ليست لديهم أية مشكلة في مشاهدة القضاء على الثورة السورية بالقوة.

كما تفاوضت الولايات المتحدة مع روسيا للتوصل إلى صفقة الأسلحة الكيماوية القذرة عام 2013، وهي صفقة كانت حلاً لمشكلة كبيرة بالنسبة لأمريكا وروسيا وإسرائيل وبالنسبة للنظام السوري أيضاً، إلا أنها لم تنفع السوريين بشيء. بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة قادت مجموعة “أصدقاء الشعب السوري” التي غُيبت ودمرت بعد ذلك.

ينبغي على اليساريين في الغرب أن يدركوا هذا: الشعب الأمريكي يدعم بشار الأسد في نواح عدة مهمة. وقد ساعدت الولايات المتحدة في إنشاء وضع تغرق فيه سوريا في الفوضى، لكن يبقى فيه النظام هو المسيطر.

حسناً، إن كان هناك تدخل عسكري لإسقاط الأسد اليوم، هل ستؤيد ذلك؟

أريد للأسد أن يُعدَم اليوم، وليس غداً. لكن يجب أن يكون لدينا رؤية مستقبلية يكون حجر الزاوية فيها تغيير البيئة السياسية في سوريا إلى حد كبير، لبناء سوريا جديدة على أساس شامل مع أغلبية جديدة في البلاد.

ولإنشاء تلك الأغلبية، يجب أن تطيح ببشار الأسد من جهة وأن تحارب تنظيم داعش من جهة أخرى. إذ سيسهم ذلك في مساعدة العلويين في الاستقلال عن نظام الأسد وسيعزل المتطرفين من بين السنة. كما سيكون أمراً جيداً بالنسبة للمسيحيين والدروز والأقليات الأخرى فضلاً عن أنه سيساعد في توحدهم حول القضايا التي تتجاوز الانقسامات الطائفية.

لدينا أشخاص من الطائفة السنية ما يزالون يرفضون أن يحددوا هويتهم بطائفتهم. هنالك العديد من الأشخاص -مثلي ومثل غيري- يريدون تغييراً حقيقياً، ويريدون أن يكونوا جزءاً من هذه الأغلبية السورية الجديدة. وإن حلاً كهذا فقط يمكن أن يكون مستداماً كما سيكون بداية لحل هذه الأزمة التي تتفاقم في العالم بأجمعه الآن.

في نهاية المطاف، ليست المسألة مسألة تدخل ضد الأسد، بل إنها قضية مساعدة السوريين لاستعادة ملكية بلدهم ومحاسبة المجرمين. وتنظيم داعش ليس وحشاً كبيراً، كما يمكن أن يهزم بسهولة. كما أن كثيرين منا ينتمون إلى الرقة (عاصمة تنظيم الدولة الإسلامية )، ونحن مشتتون في أنحاء العالم، لكننا جميعاً على استعداد للذهاب ومحاربة داعش. أما أن نعود للاستعباد في ظل حكم بشار الأسد، فلسنا مستعدين لذلك. هذه زمرة وعصابة قتلت أشخاصاً كثر، وعذبت آخرين على نطاق واسع. و بموجب القانون الدولي، يجب أن تخضع للمساءلة. هذا شيء لم نقم باختراعه، ونحن لا نطالب أوباما  وأولاند بالمجيء إلينا وحل مشاكلنا. لكن القانون الدولي اخترِق كثيراً، ومن فعل ذلك يجب أن يحاسَب. هناك محكمة خاصة في لاهاي ويجب أن يحال الأسد إليها.

هل لديك أمل في مستقبل سوريا؟

نحن شعب صامد، وما زلنا نؤمن بالكرامة الإنسانية وبمستقبل أفضل لنا ولغيرنا. لدينا قضية، وهي قضية عادلة. أعتقد أن الثورة السورية قد حررتنا من الشعور بالنقص الذي كان لدينا تجاه الشعوب الأخرى في العالم. بتنا لا ننتظر من الآخرين أن يقوموا بإيجاد حل لمشكلاتنا الآن، أو ليحددوا لنا ما العدل والإنصاف. نحن نكافح من أجل تحررنا دون أوهام. كما نأمل أن ينضم إلينا أناس آخرون في كفاحنا ونضالنا هذا. لم يعد الأمر مقصوراً على سوريا فحسب، إنما أصبح يشمل العالم أجمع.

Murtaza and Marwan Hisham

THE Intercept

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى