صفحات الناسعمر قدور

“يا أهالي لبنان.. عنّا في سوريا سقط النظام”/ عمر قدور


في بداية الثورة، وعندما كانت مدينة دمشق لا تزال هادئة، صدحت حناجر المتظاهرين في مدينة درعا بهذا الهتاف: “يا أهالي الشام.. يا أهالي الشام.. عنا/عندنا في درعا سقط النظام”. لم تكن مدينة درعا حينها قد تحررت من قوات النظام على النحو الذي شهدناه في أثناء العمل المسلح، لكن أبناء درعا حينها كان متيقنين من أن مجرد خروجهم للتظاهر وتحديهم للخوف يعنيان سقوط النظام. وعلى ذلك، كانوا يحرضون أهالي الشام على فعل المثل لما للعاصمة من ثقل سياسي ومعنوي. الهتاف ذاته راح يتنقل بين المدن السورية الأخرى، التي انضمت إلى الثورة، من ساحة الساعة في حمص إلى ساحة العاصي في حماة إلى ساحات دير الزور، وحتى التظاهرات الأولى الخجولة في حلب حينها راحت تقول لأهالي الشام إن النظام قد سقط هناك.

ذلك لا يعني أن دمشق كانت بعيدة عن الحراك الشعبي، فمنها انطلقت أولى التظاهرات العفوية حقاً، والتي هتف فيها المتظاهرون في منطقة “الحريقة”: الشعب السوري ما بينذل. وفيها أيضاً انطلقت أولى التظاهرات من الجامع الأموي إلى سوق الحميدية وتعرض المشاركون للقمع والاعتقال. لكن ما كان مقصوداً هو تحفيز الأهالي على حراك أقوى يضع الخاتمة المأمولة للنظام بعد سقوطه. فيما بعد ستنضم دمشق إلى القافلة، وستصبح مناطق عديدة فيها عصية على قوات النظام، فضلاً عن ريفها الذي أصبح معظمه خارج سيطرته، ولولا الدعم الخارجي الذي تولى حزب الله تنفيذه ميدانياً لكانت آخر معاقل النظام قد سقطت؛ هذا أيضاً باعتراف من قيادة حزب الله التي بررت تدخلها به.

العديد من المعارك في دمشق وريفها خاضتها قوات حزب الله والميليشيات العراقية، ولها أيضاً الفضل في العديد من المجازر التي ارتكبتها، قبل أن يصبح وجودها أمراً اعتيادياً في كافة الجبهات، ومع ذلك لم تتمكن هي وقوات النظام من تحقيق النصر النهائي على قوات المعارضة الفقيرة بالسلاح والعتاد. التخاذل والصمت الدوليين وفرا الغطاء لمقاتلي النظام الأجانب، وروسيا وإيران وفرتا كل ما يلزم من الأسلحة، مع ذلك لم ينجح النظام والميليشيات الحليفة في استرداد سوى بعض المناطق الصغيرة، يقابلها في كل مرة خسارة مناطق أخرى؛ وعلى رغم ذلك، الوضع العسكري الميداني ليس الأهم فيما نذهب إليه الآن.

عندما خرجت التظاهرات الأولى في المدن السورية، من دمشق إلى درعا إلى بانياس، كان النظام قد سقط فعلاً. وعندما هتف المتظاهرون بذلك كانوا يعون أكثر من غيرهم حقيقة سقوطه؛ هذه الحقيقة التي لا يغير منها بقاء قواته وقوات الاحتلال الأخرى مسيطرة على نصف الأراضي السورية، ولا يغيّر منها أيضاً بقاء شريحة من المؤيدين يستثمرها ويلوّح بها، ويدفع بأبنائها إلى الموت دفاعاً عنه. بيت القصيد أن النظام الذي قام واستمر على القمع والإرهاب سقط ككل متكامل، وأصبح عارياً تماماً فلم تعد تنفعه الأساليب البوليسية السابقة، وأن يضطر إلى استخدام قواته للبطش بالمدنيين ولتدمير البلد فهذا دليل صارخ على عجز المستوى المخابراتي، الذي كان منوطاً به أن يروّع السوريين، ويلجمهم عن أية محاولة للخروج عن الطاعة.

على المستوى العام؛ النظام الآن عاجز عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات للمناطق التي تقع سيطرته، على رغم حصاره وحرمانه وحتى تجويع بعض المناطق الخارجة عن السيطرة. نصف السوريين على الأقل لم يعد النظام يرى نفسه معنياً بهم، مع أنه لا يزال يسيطر على الثروات العامة للبلد فضلاً عن القروض والمساعدات التي يحصل عليها من حلفائه، مع ذلك لا يستطيع دفع أجور كافية لشبيحته ومرتزقته الذين يعتمدون أساساً على عمليات النهب والسلب. نصف البلد الخاضع له يعاني من شحّ في كافة المواد، وفي المقدمة منها شحّ في موارد الطاقة، وفي هذا النصف ثمة تدهور عام في مستويات الصحة والتعليم والأمن؛ أي أنه غير قادر على توفير المستلزمات الأساسية ومنها الإحساس بالأمان. ذلك ليس طارئاً، ولن يكون، فعلى افتراض تمكنه من إعادة السيطرة على مناطق أخرى فإن العجز سيتجلى بطريقة فاضحة أكثر من الآن. بموجب محاكمه الاستثنائية؛ حتى الآن هناك حوالي مئتي ألف معارض أحيلوا إلى المحكمة بتهمة “الإرهاب”، وفي حال تمكنه من السيطرة على بقية المناطق فإن العدد سيتضاعف مرات، وسيصبح القطاع الخدمي الأوسع هو قطاع السجون. باختصار لا يوجد نظام يقوم فقط على الأدوات التي يستمر بها النظام الحالي، وكل المؤشرات الحالية تدلل على نظام في حالة احتضار شديدة، أو بالأحرى في حالة موت سريري، ولكن لا أحد باستثناء السوريين يود الاعتراف بسقوطه.

من بين دول ما سُمّي بالربيع العربي، وحدها سوريا التي بقي فيها النظام مستمراً، وربما وحدها البلد الذي سقط فيه النظام حقاً رغم بقاء رموزه. هذه هي المفارقة التي لا يُراد حلها من قبل القوى الدولية، وهذا هو الواقع التي لا تريد تلك القوى الاعتراف به حتى الآن. كل ما يُشاع عن حل سياسي لا يقترب أبداً من الواقع السوري، ولا من التفاصيل التي يعرفها السوريون وتدلل على أن النظام لن يستطيع الحكم ثانية، وعلى أنه غير قادر على إعادة البلاد حتى إلى الوضع الذي كان قبل الثورة. لقد قوّض النظام بنفسه أسس بقائه تحت وهم بقائه على أنقاض البلد، ولن يكون بإمكان حلفائه أن يبنوا له بلداً بديلاً على مقاسه، ذلك يتطلب منهم البحث لنسبة غالبة من السوريين عن وطن أو أوطان بديلة ليحكم مؤيديه فقط، وأيضاً بالحد الأدنى من المقومات الذي يرتضونها لأنفسهم.

نعم، بإمكان حلفاء النظام إسعافه بالقوة العسكرية، وتمديد الحرب ربما لسنوات إضافية، ولكن ليس بإمكانهم تصنيع نظام قادر على الحكم، وهذه ليست مهمتهم أصلاً، غير أن جهودهم لن تثمر سوى عن مزيد من الخراب لسوريا وللبلدان التي أتوا منها. الميليشيات اللبنانية والعراقية المدعومة إيرانياً لم تأتِ إلى سوريا كرمى للنظام فقط، وإنما أتت لحماية النظامين القائمين في بلديهما، أتت لحماية الهيمنة غير المستحقة في العراق ولبنان، وعندما يطول أمد الحرب فستمتد آثارها إلى الجوارَيْن، وسينعكس عجز النظام عجزاً لحلفائه في معاقلهم. سيكون من الوهم الكبير أن يقتنع أولئك بقدرتهم على الهيمنة فقط بواسطة العسكر أسوة بحليفهم السوري، وسيجرون لبنان والعراق إلى وضع مشابه إن هم وثقوا كثيراً بفائض القوة العسكري الذي يمتلكونه الآن.

في سوريا لا يبدو من خيار فعلي حالي سوى استمرار الحرب، عودة النظام غير ممكنة لأنه لا يستطيع العودة، ولأن السوريين لن يمكّنوه منها. بقاء الوضع على ما هو عليه في سوريا ومحاصرة تداعياته الإقليمية لن يكون ممكناً لفترة طويلة، لا لأن أحداً في سوريا يريد أو يحاول إشعال المنطقة ولكن لأن الميليشيات الوافدة هي التي ستتكفل بالأمر. قد يكون الانفجار الإقليمي هو بداية الحل، والبداية لإسقاط منظومة متكاملة من الهيمنة المقنّعة بذرائع طائفية، ذلك سيحصل عندما يقتنع الجوار بأن النظام السوري قد سقط فعلاً، وأن لحظته قد حانت للتخلص من تبعاته. في لبنان على وجه خاص ستكون هذه القناعة ضرورية لإنقاذ البلدين، وربما كان ما ينقص في هتافات السوريين الأولى هو التوجه إلى اللبنانيين والقول: “يا أهالي لبنان.. عنا في سوريا سقط النظام”.

دمشق

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى