تهامة الجنديصفحات الناس

يا سورية.. يا وحشة العيد/ تهامة الجندي

 

هذه المرّة الرابعة التي يطرق فيها عيد الأضحى بابي بعد اندلاع الثورة السورية. وفي كلّ مرة أجده أكثر هُزالاً من قبل. وتزيد كآبتي من خلال ملامح وجهه الشاحب. “لماذا تأتي قبل النصر؟”، أسأله، ويجيبني: “أوقاتي محدّدة، لا أستطيع الانتظار 100 عام”.

كيف أستقبلكَ أيّها العيد، وبلدي نصفه حطام ونصفه نازح، وفي قلبي يصرخ السجناء والمخطوفون، وعلى عينيّ يسيل دم القتلى من الأطفال والكبار؟ كيف أسمح لك بالدخول إلى غرفتي، والجوع يهلك السوريين في الوطن المستباح، وفي دول الشتات؟ كيف أفتح لك بابي، وأنا النازحة المحاصرة بألف خوف وقلق يرهق ليلي ونهاري؟

رُدَّني على الأقل إلى وطني وأهلي وأصدقائي لساعة واحدة، كي لا أنسى اسمك. أو انصبْ لي أرجوحةً في منفاي، لأتذكّر بهجتك وأحلامي. هاتِ شيئاً من حلواك، لألهوَ بها بعيدة عن مرارة أيامي.

لولا هاتف صديقتي المسيحية من باريس، لما أحسسْتُ بمجيئكَ. أيقظتْني من نومي، وقالت: “ينعاد عليكِ بالخير والسعادة”. نهضتُ من سريري الضيق، شربت قهوتي، ارتديت ملابسي، وغادرت عزلتي إلى زحام الشارع. سرتُ وحدي حتّى هدّني التعب. وعلى رصيف المدينة، شربت قهوة المساء وحدي، وكتبتُ ذاكرتي معكَ على دخان تبغي.

في الدائرة الدخانيّة الأولى، رأيت وجه أمي العجوز التي رفضت الرحيل معي، وآثرت البقاء تحت القصف، على الموت في صقيع المنافي. نقلتني دائرة أمي إلى ذلك الصباح الأغبر، من أوّل أيّامك في عام 2012، حين فتحت صفحتي في فيسبوك لأهنئ أصدقائي، فوجدت نعي عائلة من أقاربها.

خلدون ابن عم أمي، وزوجته، وولديهما سامي وخالد، كانوا يسكنون “دوما”، وعند صلاة الفجر اقتحم الشبّيحة بيتهم، كبّلوا أيديهم، وجزّوا رقابهم بالسكاكين. صرت أستيقظ مذعورة كل فجر، أرتعش، وتتسارع دقّات قلبي، وأنا أتخيّلهم يُذبحون، وأنتظر دوري. بعدها لم أعد أنام في الليل، أصحو، وأحرس نفسي، ولم يكن في حوزتي من الأسلحة، سوى آية الكرسي وصورة مريم العذراء.

انتهت لفائف تبغي، وتلاشت دوائر الدخان وذكرياتي، وأنا في مقهى الرصيف. لم يبقَ أمامي غير وجه الصبية المحجّبة التي زارتنا في دمشق في أوّل أيّامكَ، أيضاً (على ما أذكر) أيّها العيد، كانت صديقة أختي، ولم أكن أعرفها من قبل. قالت على مائدة الطعام: “مالنا واجمين كأنّنا في العشاء الأخير”! وحين غادرتنا، ووصلت بوابة منزلها في حي برزة، أرْدتها رصاصة القنّاص.

بعدها، قرّرتُ أن ألقاك في دول اللجوء. ها هو يومي الأوّل معك، يكاد يشرف على الانتهاء ولم ألتقِ بأحد. لم يهتف لي أو يراسلني أحد. هنا المعارضة السورية تعيش في جزر معزولة. يخشى بعضها البعض. وأنا أعيش في جزيرتي المسّتقلة، مع أوراقي وأصدقائي “الفايسبوكيّين”.

أشعر بالبرد وألم المفاصل، أفتقد دفء الشام وبيروت، وأحن إلى رائحة الياسمين عند هبوط المساء. تشبه صفحات أصدقائي النازحين صفحتي أيها العيد. كلّنا يعيش الوحشة ذاتها، يذرف دمعه على أشلاء الوطن المقهور، وعلى أطلال حياة عالقة بين أسلحة النظام وسكاكين داعش.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى