صفحات الرأي

يا ليتها سياسة أقلوية/ رشا الأطرش

ثمة فارق بين مصريين وسوريين ينشرون، في مواقع التواصل الاجتماعي، عبارات وموتيفات مسيحية، تضامناً مع مسيحيين يُقتلون، ورفضاً لحرق كنائس في القاهرة أو الرقّة.. وبين عقلية أقلوية ميالة غالباً، في بقعتنا من العالم، إلى التماهي مع السلطة المعرّفة بأكثريتها، لتتلبّسها، وتتماثل مع جنوحها إلى الاستئثار وإلغاء الآخر. هذه عقلية تدّعي أنها صوت الآخر المهمّش. لكنه، هنا، آخر حصري، وكلّ آخر غيره يجوز التمييز ضده على طريقة المستبد الأكثري الذي يتواطأ بدوره مع عقل أقلوي ليهمّش “ناسه” مجدداً… وتدور الدائرة الشيطانية مفرغة، والصورة تعكسها مرآة جهنمية.

المتضامنون يتبنون الأقليات. يحتضنونهم بكتابة “أنا مسيحي”، كموقف أخلاقي وسياسي، سواء انتموا هوياتياً إلى أقلية ما أم لم ينتموا. أما العقلية الأقلوية، فلها ذاتٌ خبيثة، تشتهي سراً ملامح القوة الأكثرية الطاحنة نفسها التي تضطهدها، بدلاً من وجه ذي أحقية شبيهة.

الأمثلة في المنطقة عديدة، أسطعها تجارب أقليات طائفية في حكم سوريا والعراق، والتجربة اللبنانية قبل حرب 1975 وبعدها، بل وبعد أيار/مايو 2008. لكن هذه أقليات انتزعت السلطة بأنيابها، ثم أطالت أظافرها في لحم شعوبها. بيد أن الدلالة الأخطر والأعمق تكمن في أقليات ما زالت مهمّشة، ومخالبها مغروسة.. في قضيتها.

 يبدو الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، الأنبا أرميا أفامينا، مثالاً نموذجياً على مظلومية قمعية. فيما تختزن التظاهرة الشبابية المحدودة التي نظّمت ضده، مؤشراً واضحاً على هيمنة العقلية الأقلوية، إذ لم تلق التظاهرة الاهتمام الذي يستحقه شعارها: “أرميا إرجع ديرك”. نعم.. تهيمن الأقلية إن استعارت عقل الكَثرة العددية الصمّاء.

فقد أعلن الأنبا أرميا، قبل أيام، اعتراضه على ما اقتُرح ضمن “لجنة الخمسين” المولجة بتعديلات الدستور المصري، في شأن المادة الثالثة التي تنص على أن “مبادئ شرائع المصريين للمسيحيين واليهود هي المصدر الأساس للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشؤونهم الدينية واختيار قياداتهم الدينية والروحية”. أما الاقتراح فيرمي إلى تعديل المادة باستبدال “المسيحيين واليهود” بـ”غير المسلمين”. اعتبر أرميا أن في ذلك “تغييراً للهوية الدينية، سيدخل البلد في أزمة كبيرة”، لأن المادة الثالثة بصورتها المعدلة، في رأيه، ستفتح باب الفتنة في المجتمع، بين المسلمين في ما بينهم، والمسيحيين في ما بينهم، لا سيما أن “المسلم سيعاني انتشار المذهب البهائي والشيعي، بينما ستدخل الكنيسة في صراعات حتمية مع بعض الطوائف غير المعترف بها والتي تمتلك من رأس المال ما يمكنها من استقطاب الشباب القبطي بسهولة”.

 وأرميا أسقف مثير للجدل. أقاويل كثيرة تدور حول سعيه المستمر إلتى تحالفات سياسية مع قوى الإسلام السياسي، لضمان بقاء الصبغة الدينية الأصولية التي تمنع ظهور جماعات مسيحية يعتبرها خطراً على مذهبه، مثل المورمون وشهود يهوه. وهو يحافظ على علاقاته مع التيار السلفي الذي يعتبره البديل الجديد لجماعة “الإخوان المسلمين”.

 وثمة ما هو أفدح. إذ أن اعتراض أرميا جاء في سياق نقده للينٍ أبداه الأنبا بولا، أسقف طنطا وعضو الكنيسة الأرثوذكسية في “لجنة الخمسين”، في ما يخص التعديل المذكور. فما كان من بولا إلا أن وصف أرميا بـ”الجاهل”. ليس لتطرّف أرميا لـ”أهل الكتاب”. وليس نصرة لما طالب به الشباب المحتجون، أي “مصر لمواطنيها بمختلف عقائدهم، وحرية عقيدة المسيحيين المرهونة حكماً بضمان الحرية للأديان والمعتقدات كافة”. لم يرَ بولا ما رآه الشباب في تصريحات أرميا التي تساهم في جعلهم “ذميين”، في حين أنهم يطلبون المواطنة. رَدُّ الأنبا بولا، حاكى أرميا، رغم دعوى الاختلاف. يقول بأنه تقدم إلى “لجنة الخمسين” بتعديل للمادة الثالثة يتضمن عبارة “اليهود والمسيحيين”، لكنه أثناء النقاش “فوجئ” بتيار جارف يطالب بإضافة “غير المسلمين” حفاظاً على صورة مصر في الخارج، وكي لا يقال إن مصر تضع دستوراً عنصرياً، إضافة إلى “مشكلة محلية خاصة ببعض الفئات”. وأوضح بولا بأنه كان مستعداً للتنازل عن الصيغة التي قدمها “من أجل مصلحة مصر والإجماع.. لكن إذا كان هذا الأمر يسبب مشكلة لأخوتي المسلمين فلا نريد عبارة غير المسلمين”!

 لا تمايز كبيراً إذاً، بين أرميا وبولا. الفارق الجذري يبقى بين العقلية الأقلوية المهيمنة، وبين المسألة الأقلوية المهمشة.

تظهر المعضلة ذاتها في تصريحات الوزير اللبناني (العوني) جبران باسيل، ضد اللاجئين السوريين. فقد استنكر مؤخراً سعي الدولة اللبنانية إلى تمويل “لتحسين ظروف التواجد السوري.. فعند تحسين ظروف عملهم، لن يعودوا إلى سوريا”. والأهم أنه وصف أزمة النازحين بأنها “الأزمة الكيانية الأكبر في لبنان”، معلناً: “إننا نريد تمويلاً لإخراج السوريين بطريقة إنسانية، وليس لتحسين ظروفهم في لبنان”. وختم بالزبدة الأقلوية المسمومة: “إذا كنتم مسلمين فستكونون أقلية مستقبلاً في ظل هذا الوجود السوري، وإذا كنتم مسيحيين فسيزداد تناقص عددكم”.

 من حيث لا يدري، أثبت باسيل قاعدة ذهبية في المسألة الأقلية، أو بالأحرى الخيط الرفيع الفاصل بين العقلية الأقلوية كمدلول فاشي، وبين الأقلوية كسياسة ديموقراطية. فهذه الأخيرة، المرتجاة عبثاً في بلادنا، لا تحيل إلى عددية تبسيطية، بل إلى الجماعات/الهويات المقابلة لتلك المنخرطة في ماكينة السلطة، ماكينة الأكثرية. مثلاً، النساء أكثر عدداً من الرجال. لكن، في مقياس القوة والنفوذ، ما زال الرجال أكثرية. لذا، فإن واجباً أخلاقياً يقتضي أن “نصبح كلنا نساء”. حتى النساء أنفسهن، عليهن، بوعيهن، كما الرجال، أن يتموضعن مع النساء المستثنيات من الماكينة الكبرى. هذه هي القضية، الأقلوية الحقّة.

تصريح الأنبا أرميا يوافق هوى أصيلاً للسلطة، هو ظِلّها. الهوى الأكثري الذي لم يسع أي حكم في مصر، عسكرياً كان أم “إخوانياً”، إلى كسره. بل حرص على اختزال تمثيل الأقليات في أبناء الذهنية الأقلوية التي تشابهه فتتواطأ معه.

في سوريا أقليات طائفية ومذهبية تؤيد الأقلية الديكتاتورية الحاكمة. والسبب الرئيس ليس في مصالح مشتركة، ولا في فوائد زبائنية اقتصادية وسياسية بالضرورة. بل هو خوف العقلية الأقلوية على وجودها. خوف مستعاد منذ ما قبل السطوة، يعزز أجندة فوق وطنية. وهو حال الشيعة كأقلية عددية في المنطقة، وسنّة لبنان يوم رأوا أنفسهم أقلية سُلطة في ظل لبنان “كياناً للمسيحيين”. وها هو جبران باسيل يحذّر من النزوح السوري كـ”أزمة كيانية” لبنانية.. ولا تنتهي الدورة اللعينة. هي الأقليات إن تجبّرت، ووازى خطابها طغاة الأكثريات في مجتمعات تَسَلّمها عسكرها من مستعمرها.

ليت الموضوع صعد إلى مصاف السياسة الأقلوية، المتفوقة أخلاقياً وصوابياً على الحقيقة الأكثرية بنفوذها المستقى من جوهر السلطة. لكن، للاسف، هو السقوط إلى القاع الأقلوي الموحل. فحقيقة الأكثرية فارغة، لا تمثيل فيها. السياسة الأقلوية هي الإمكانات الكامنة، في كل فرد، لكسر الهيمنة. هدفها ليس حيازة موقع الأكثرية، أو مجابهة “خطر” يحدق بفرصة لنيل حصة منه، على طريقة الأب أرميا وجبران باسيل. يا ليتها كانت السياسة الأقلوية، فهي تمرين ديموقراطي مستمر، عملٌ على ليّ قوالب يُجمّد فيها الحيز العام، اختراع صيغ بديلة للوجود.

 لكن لا يبدو أن للسياسة الأقلوية حظاً عندنا. لا حميد سياسياً سيولّده احتكاكها بأكثريات السلطة. فالأصوات الخارجة من بيننا أصداء أقليات محضة، والمعترضون عليها أقلية داخل أقلية. تُسمع بيننا، فقط، أصوات الأقليات بالهوية العددية. وهذه من دم الأكثرية المستبدة وطبعها الذي لا تني تعبّر عنه كلما سنحت لها فرصة التعبير عن ذاتها البسيطة تلك.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى