صفحات سوريةغازي دحمان

يبرود خطوة على طريق الحرب الطويلة/ غازي دحمان

تم الحسم في يبرود. نجحت كتائب حزب الله مسنودة بكتائب بشار الأسد في حسم المعركة لصالحهما، كانت الوقائع على درجة عالية من الإثارة، بحيث إستحقت إقامة الأفراح، وتبادل التهاني، على إيقاع ضجيج مرتفع من الهتاف للمعركة وجنودها المنتصرين، ما سمح بضمان تمرير جثث القتلى، ودفنهم تحت ظلال رايات النصر.

بالأصل، جرى تضخيم المعركة إعلامياً، ليصار إلى توظيفها على تلك الشاكلة. جرى تصويرها على أنها معركة فاصلة وحاسمة، ما بعدها ليس مثل ما قبلها، وكأنها معركة مرج دابق التي غيرت مسار المنطقة، ورسمت واقعاً جديداً في مسار صعود الدولة العثمانية، أو كأنها معركة واترلو التي حسمت تاريخ نابليون العسكري.

ليست الأمور على هذه الشاكله كما ان أثرها ليس إلى ذلك الحد على المستوى الميداني. فالثورة فوضوية، ومرنة، إلى حد يجعلها لا تتأثر كثيرا بهذا النوع من التراجع أو الانسحاب. كما أن نمط القتال الكلاسيكي هو نمط دخيل على الثورة، ولا يشكل العمود الأساسي لفعالياتها، وإن كان جرى اعتماده مؤخرا على جبهات الصراع. وهو في الواقع كان استجابة لنمط الصراع الذي فرضه النظام، وفي الوقت ذاته يعكس مدى قدرة النظام وحلفائه على جر الثورة لملعبهم، بالأصل ما كان للثورة إتباع هذا النمط القتالي، الذي يتطلب قدرات لا يمكن توفيرها، لتتوازى مع قدرات النظام في ظل هذه الاشتراطات الصعبة.

كما أن الثورة كانت قد حققت انتشاراً هائلاً، في ظل وجود القوة العسكرية، وبكامل جهوزيتها وفعاليتها. وما حصل ان النظام وصل إلى درجة عالية من الاستنزاف، واستهلك جزءاً كبيراً من رصيده الاجتماعي والعسكري، وهو يكمل مسيرة الإنهاك، ويورّط معه حزب الله، الذي يحسم ويحقق انتصارات، لا يهتم كثيراً بحجم الثمن المدفوع مقابلها.

غير أن المعركة، في أبعادها الأخرى، ليست أكثر من تكريس لحرب مذهبية، يجري تجهيز كامل عدتها ومبرراتها. حرب سيكون من أهم سماتها أنها حرب طويلة. فكما لا يمكن لأحد حسمها بسهولة، لن يتمكن أي طرف من إنهائها وقت يريد، ولحظة شعوره بخطأ حساباته. هي حرب ستفرض منطقها وقيمها، وتفرز قادتها، وتعين أبطالها، وتصنع رموزها المقدسة. لكنها ستجعل الجميع يعمل وفق مقتضياتها. وهي الحرب التي ستستهلك جيلاً كاملاً في أتونها. جيل بدأ تجهيزه لذلك اليوم الموعود، تجهيزاً كاملاً من طاقيته إلى حذائه.

هي حرب ستكون كثيفة الانخراط، إن على مستوى المكونات المحلية (في سوريا ولبنان والعراق)، حيث يتوقع أن تدخل كل بيت، وتجذب إلى صفوفها المزيد من المقاتلين المتحمسين. ويتوقع أن تجرف حتى بعضاً من النخب التي بقيت حتى الآن على الحياد، طالما أن طابع الحرب هو حرب وجود وبقاء، في حين أن من سيرفض الانخراط بها، سيحكم على نفسه بالإبتعاد القسري، بعيداً عن الساحات التي تحصل بها المواجهة. هو زمن القطيع السائر إلى الحرب المقدسة، وأوان تفتح الغرائز واندفاعها إلى أبعد مدى يمكن أن تصل له القدرة.

وهي حرب ستكون كثيفة الانخراط على المستويين الإقليمي والدولي. الواضح أن الاستجابة لهذه الحرب بدأت تأخذ منحنيات تصعيدية بين الدول الإقليمية، استطاعت ان تتكرس في إدراك دوائر صنع القرار، في الدول الإقليمية، على أنها حرب وجود، وان سوريا باتت تمثل خط الدفاع الأول، الذي يريد كل طرف كسر الطرف الآخر داخل أسوارها، وعدم الاضطرار إلى تجرع كأس سم المواجهة المباشرة.

لا يختلف الأمر كثيراً على الصعيد الدولي، في ظل فوضى العلاقات، وبؤر التوتر المنتشرة من جنوبي آسيا إلى أوروبا، وصولاً إلى المشرق العربي، الأمر الذي يستلزم معه توفر ساحات لامتصاص التوتر وتصريفه. ولا يوجد حتى تاريخه ساحة أفضل من الساحة السورية، والمشرق العربي، لما تتمتع به من قدرة على تجريب أنماط الصراع، وحتى أنواع الأسلحة دون مغامرة الإقدام على الاحتكاك المباشر بين الأطراف.

ما تقدم ليست رؤية تقديرية لأحداث قد تحصل، بل هو تحليل لسياق يسير واثقاً بهذا الاتجاه. سياق يملك حزمة من المحفزات، التي تدفعه للسير قدماً، وبتعجل ضاغط، طالما بقيت أطرافه، كلها، مقتنعة بالنصر المقبل لا محالة. ولا يوجد في المقابل ما يدعو إلى وقفه، بل على العكس من ذلك، يبدو الحديث في هذا الاتجاه سمجاً وخارجاً عن الإطار العام، كما أنه معكر للمزاج العام العامر بالحماسة للحرب وزهو إنتصاراتها.

ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن التعايش صار مستحيلاً، إلا ضمن صيغة غالب ومغلوب! لا شك أن طريقة التفكير هذه ستستهلك المنطقة، وتحول كل شيء محترم فيها إلى وقود لحرب عبثية: ثرواتها وشبابها ومستقبلها أيضاً. كل تلك الأقانيم يجري بلورتها لتوظيفها في معركة المصير المقبلة، ولن يحصل شيء إستثنائي لتغيير هذا الواقع.

إحسم نصرك في يبرود، إحفر قبرك في يبرود. الواقع هو لا حزب الله حسم، إلا ظاهرياً، ولا الطرف المقابل إنتحر، بل استهلك وقوداً آنياً سيجري تعويضه. وكل ما في الأمر أن تلك مواعيد ضربها أصحاب الشأن لمعارك ستبقى موعودة، وجولات كثيرة منتظرة، من غير المؤمل أن يحسم أحد فيها، غير أن قبوراً كثيرة سيجري حفرها لدرجة قد يستعير أهل المشرق أرضاً جديدة تسد الحاجة لحالة الطلب الكثيف على القبور.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى