سوسن جميل حسنصفحات الثقافة

يدٌ سورية تبحث عن قبر

سوسن جميل حسن

دخان وأبواق إسعاف وإطفاء، صراخ وعويل وشتائم واستنكار، حركة مضطربة تتناسب مع الجنون الذي لا يوصف ولا يضبط، وكاميرات تصور المجزرة. أجساد قبل لحظة كانت ثم.. كأنها لم تكن. كأن الحياة مجرد فكرة، مجرد سراب، مجرد وهم. لكن كيف يمكن أن نقتنع بهذا، نحن الذين بقينا على قيد الحياة كشهود نصطفّ في طابور الموت الجبار؟ هذا هو حال الشام «دمشق».

صوت التقطه الميكرفون، أثناء ذهول كاميرا التلفزيون، يقول: «هاي إيد وين بدّي حطّها»؟ صوت محايد.. محايد تماماً. صوت لا يرتفع، لا يشهق، لا يهمس، لا يغص، لا يختنق.. صوت يحتار بيد سورية. تلك اليد المفصولة عن جسدها ملقاة على مرمى فاجعة من صاحبها، ربما تحمل خاتماً قد يكون هو الهوية الوحيدة لها، وربما تحمل ربطة خبز بقبضة فرح وانتصار فقد طوّعت الجوع ليوم آخر، وقد تكون أمسكت كتاباً تعاند الموت به… وربما.. وربما. لكنها يدٌ من بلدي، يد إنسانية الملامح مرمية بجبروت موت غاشم، يدٌ بلا جسد تحمل حكاياتها معها مكتوبة على بصمات بخمس أصابع بحبر الحياة السري، ماذا صنعت حتى تجازى ببترها عن ماضيها؟ من الحاكم الذي من حقه مقاضاتها وبأي قانون؟ حتى الخالق يسأل مخلوقاته يوم الحساب عما اقترفت أيديها، فأي جبار هذا الذي يفجر الأجساد والعباد، ويرمي الأيادي على دروب التيه تنزف دماً وحنيناً من دون أن يسألها؟ يد سورية تبحث عن قبر، بدلاً من أن تبحث عن مشغل للإبداع. كان هذا في انفجار السبع بحرات والدخان الأسود مازال يهجم على سماء دمشق. لكن هل بات المكان مهماً، أو التوقيت، أو التاريخ؟ هي مجازر تستنسخ بعضها، وقتل يعيد إنتاج نفسه. سورية هي اليوم طاحونة الأرواح ومحرقة الأجساد وماكينة التقطيع.

سورية تنتمي إلى تلك البقعة المصابة باللعنة، ترابها المجبول بالدم صار مزارع مغمسة بسماد الفتنة تنبت قتلة وضحايا، ترابها يغري شركات الموت لتستثمر فوق أرضه بانتظار التوقيت المناسب، الذي بات واضحاً أنه سيتأخر، لتباشر استثماراتها الأخرى تحت عناوين إنسانية: إعمار سورية.

على مدى عامين وأكثر ونحن نتسمّر أمام الشاشات نتفرج على محنــتنا، ننتــظر أن يشرحهــا العالم لنا، ويطـرح عليــنا قامــوس مفرداته الجديد ربما لتحضيرنا النفسي والوجداني والعقلي من أجل ما يُرسَم لنا، ونستمع إلى الحلول الممكنة، قد نكون لبنان، وقد نكون الصومال، وقد نكون أفغانستان، وقد نكون ليبيا، وقد نكون العراق… وقد نكون يوغسلافيا وقد نكون… مشروع تقسيم آخر لم تسبقه تجربة مماثلة.

مناطق «محررة»، كما تقول المعارضة، حيث تكتسب المفردات معنى آخر. محررة من ماذا وممّن؟ تدير شؤون الحياة فيها جماعات تستند إلى الشريعة في أدائها وإلى السماء في مشروعيتها، وفصائل تحمل السلاح يتربص بعضها بالبعض وتتنافس على امتلاك الشارع، وحكومة تُضاف إلى قائمة الحكومات، واحدة مازالت هي الحكومة الرسمية على باقي الأجزاء التي لم «تُحرّر بعد» وأخرى انتقالية تحدّث عنها مؤتمر جنيف، وربما ستفرز الأوضاع مستقبلاً حكومات أخرى في تشكيلات أخرى أيضاً، ومجالس تتعدد بين مجالس محلية ومجلس وطني ادعى أنه الممثل الوحيد، ليضطر تحت تأثير خلافاته الداخلية وصراعاته على الاستئثار بالقرار إلى أن يدفع بمجلس آخر إلى الظهور (الائتلاف) كممثل شرعي ووحيد باركته الدول العربية في مجلس جامعتها ومنحته مقعد سوريا فيها، وسارع إلى المطالبة بالتسليح كي يحمي الشعب السوري من القتل. لكن القتل لم يتوقف، والتفجيرات التي تستبيح الوطن السوري كله اشتدت وحشيتها، وتنظيم القاعدة في العراق يعترف بأبوّته لجبهة النصرة في سورية على لسان أمير الدولة الإسلامية في العراق «أبو بكر العراقي» ويعلن تأسيس الدولة الإسلامية في العراق والشام، كوجه آخر لدولة البعث في العراق وسورية، و«الجيش الحر» يعلن أن مهمته هي إسقاط النظام والحفاظ على الكيان السوري، أما وكالة «سانا» الرسمية فتضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليته بالاعتراف بحق الشعب السوري وحكومته في محاربة الإرهاب… والتصريحات الأميركية الأخيرة تتنبأ بطول أمد الأزمة السورية.. وينذرنا رأس النظام بأن التقسيم مشروع يجري الاشتغال عليه.

الصوت الوحيد الغائب، بل المكتوم، هو صوت الشعب السوري الذي بات يئن بجروحه وفواجعه، ويُزج في سباق الشهادة المحموم، فيحصد بالمئات.

كم يبدو المنجل رحيماً بالسنابل أمام حصادنا؟ نحن شعب سحبت منه كل حقوق الحياة، ليس فقط موتنا هو المطلوب، بل الوصول بنا إلى حافة الجنون. نعم الجنون، فهو سيفتح الأبواب كلها، أبواب الوصاية بشرعية دولية ودينية وقانونية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى