صفحات الثقافة

يشبهون قدّاساً لم يعثر على كنيسته يشبهون حياةً لم تعد في المتناول


أفترض الآن أن أطفال الحولة نائمون أفترض أنهم يحلمون فحسب!

كنتُ أفترض أنهم نائمون. أنهم نائمون فحسب. وأنهم لن يلبثوا أن يعودوا من نومهم هذا، ليبدأوا الحياة من جديد. لكن الصباح كان قد مضى الى أعماله، وهم لم يكونوا قد أفلتوا مما ظننتُه كسل الغفلة. شيءٌ ما – ولا بدّ – كان يجعلهم يواصلون الإيغال في صمتهم، ويحول بينهم وبين النهار.

لم أستطع أن أفترض احتمالاً آخر، ليقيني أن الأطفال عادةً، هم الذين يوقظون الصباح. لم أشأ بالأحرى أن أفسح لاحتمال آخر. للغرق في النهر، للنسيان الأعمى، للوجع الوجودي مثلاً، بسبب خشيتي مما يمكن أن تفضي إليه احتمالات كهذه، إذا اغلقت الغابة أبوابها. قلتُ، فلأتذرّع بأن أحلاماً نزقة تشغلهم عن فجاجة الشمس، وبأن طفولاتهم ستظلّ تخترع حكايات ليست في الحسبان، ولأجل ذلك هم متأخرون عن هذا الصباح.

كنتُ قد ذهبتُ إلى هناك لأنضمّ إلى سهر الرفاق، لأطرد النوم عن أرواحهم المتعبة، لأضمّد أفكاراً وأشعاراً كان قد تسنّى للحالمين للمفكرين للشعراء أن يكتبوها تحت سكّين الليل، لكني لم أعرف كيف أضمّد عينيَّ، عندما رأيتُ أحلام أفكارهم ونظراتهم المسروقة.

قلتُ، إلى أين يهرعون في مثل هذا الوقت المتأخر، وهل يدور في خلدهم أن الأمهات قد يقلقن إذا تركوا، أكثر فأكثر، ظلال أشجارهم بدون عطورها وأحلامها؟! أتراهم لم ينتبهوا إلى مرور أيديهنّ للسؤال عنهم؟! أتراهم عثروا على أيقوناتهم فصاروا أيقونات الجروح والحكايات والذكريات؟!

قبلذاك، كنتُ أقول، فلأهيّئ ماءً يغسلون به أقدامهم الحمقاء، وأرتّب لهم طاولة العشاء، لكي يستقبلوا النعاس والليل كما يليق بياسمين بلادهم أن يعبث، قبل أن يفلت رحيق عطوره من خلف السياج. لكني، حقاً، لم أعثر في الخارج على صنادلهم الخفيفة، ولا على ضحكات تركوها وراء الباب.

كنتُ قد تأخرتُ قليلاً بسبب رعونة الضوء، فعرفتُ في ما بعد أنهم سبقوني إلى الأسرّة الفارغة، لينضمّوا إلى أنين متاهاتهم العمياء.

عندما وصلتُ الى حديقة حياتهم، كنتُ قد وجدتهم نياماً خارج الحديقة، مضرّجين بصمتهم وبأرملة حياتي الموحشة.

قلتُ، تبّاً للشعر. تباً لأفكاره وكلماته اليائسة. تبّاً لي، قلتُ أيضاً، أنا جريح قلبي وبلادي، لأني لم أعرف أن أجيء قبل الوقت المسموم، فأمنع الصباح من أن يأكل ليلهم الذي أضحى فريسة.

كنتُ قبلذاك قد رأيتهم في منامي يمتدحون عطور الياسمين في بلادهم، ويقطفون الهواء الطلق من ألق السهول. تأخذهم شمس الفجر الى التلال الخفرة، ليفوزوا بالغيوم، ومن هناك يقلّدون العصافير في طيرانها.

لم أرَ جمالاً دامياً كهذا، إلاّ عندما رأيتهم في جمالهم الأبدي. صباحاتهم مأخوذة على حين غرّة. مناماتهم لم أعد أدري أين تهيم ولا أين تحطّ الرحال. كأن النهر الذي يستدرج الظلال الى أشجار ضفّتيه لم يتمكن من استدراج ظلالهم لتستريح من شيطناتها المتألقة. كأن الغابة قد أغلقت حقاً أبوابها دونهم، فظلّوا خارج الغابة.

كانوا ممدّدين كمن يهرقون قمراً لم يلتحق بهم. أو كمن يأخذون قيلولة في غير أوانها.

يشبهون قدّاساً لم يعثر على كنيسته. يشبهون حياةً لم تعد في المتناول.

أفترض الآن أنهم نائمون. أفترض أنهم يحلمون فحسب.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى