صفحات سوريةعمر قدور

يميننا ويسارهم ويمينهم/ عمر قدور

 

 

 

يُتوقع ألا تهدأ الضجة التي أثارها فوز دونالد ترامب حتى يثبّت بتولي مهماته الحدود الممكنة فعلاً لما يستطيع تنفيذه، ومن المؤكد أنه لا يستطيع تجاوز النظام الديموقراطي الأميركي الذي لا يرسّمه، هو أو سواه، ديكتاتوراً. شيء مما رافق فوز ترامب، كان قد رافق من قبل فوز ريغان، ومن ثم فوز جورج بوش الابن، ومع أن المناخ الدولي لم يكن أثناء ولايتيهما في أحسن أحواله إلا أنه لم يكن كارثياً كما يُصوّر الوضع الآن. الأهم، من وجهة نظر الناخبين أصحاب القرار، لا تُرى الفوارق بين أولئك الرؤساء وسواهم من الديموقراطيين سوى بمنظار داخلي، بما فيها حرب العراق التي لو لم تودِ بأرواح جنود أميركيين لما كان لها أثر في حملة أوباما الأولى.

عربياً، لسنا حالة شاذة، إذ يُناقش فوز أي مرشح رئاسي أميركي بموجب سياسته المتوقعة إزاء قضايا المنطقة. في كثير من الأحيان، تتضاءل الاختلافات بين المرشحين، لأن الإستراتيجية المتبعة تتعلق بمصالح مُتفق عليها ضمن الطبقة السياسية الأميركية، ولأننا لا نملك القدرة على التأثير في الناخب، كما يفعل اللوبي اليهودي مثلاً. مفكر أميركي هو ألفين توفلر، أصبح من مستشاري كلينتون في ما بعد، كان قد تصور وجود كوتا انتخابية لدول تتأثر بنتائج الانتخابات الأميركية، لكن ذهنه انصرف إلى قوى لها تبادلات اقتصادية ضخمة مع بلاده، مثل اليابان والصين والمكسيك والاتحاد الأوروبي، وبالطبع لم نكن حاضرين في متخيله هذا.

نقاشنا في فوز ترامب، أو سواه، قد يكون ضرورياً لفهم بعض المتغيرات العالمية، حتى إذا كنا في موقع غير فعال إزاءها. وقد يكون مفيداً لجهة فهم أفضل لديناميات الديموقراطية، وحتى الانحياز إلى برامج عمل لا تستهدف أي تحسن في أوضاعنا لأنها مشغولة أصلاً بأوضاع الناخبين المحليين. هذا الفصل يجافي موقتاً ما يُقال عن القرية الكونية، على الأقل لأننا لسنا في طور المسير إليها، ولا العالم «الأول» بعد انتهاء الحرب الباردة، والكلام الذي شغل حيزاً كبيراً من الاهتمام عن «نهاية التاريخ»، تواقٌ إلى جعل العالم منفتحاً هكذا. ذلك واقع لا يصح تجاهله.

ثم إننا ننسب إلى أنفسنا تأثيراً سلبياً مزعوماً يفوق قدراتنا، على سبيل المثال عندما ننسب إلى داعش التسبب بانتعاش اليمين الغربي والتيارات العنصرية، فلا نلحظ التناوب في صعود اليمين واليسار الغربيين، ولا نلحظ صعود تيارات متطرفة قبل بروز تنظيمي القاعدة وداعش على الساحة الدولية. وإذ نصطف عن حق ضد التيارات العنصرية إلا أننا في غالب الأحيان نصطف مع تيارات أكثر رأفة بالمهاجرين، في حين لا تحمل مشروعاً لمساعدتهم على البقاء في بلدانهم الأصلية، الأمر الذي يساهم في إبقاء مسائل الهجرة موضع جدل غربي لا يندر أن يستفيد منه اليمين.

اليوم، ثمة يسار غربي بمختلف الذرائع يصل إلى تفضيل سفاح مثل بشار الأسد على داعش، من دون الاكتراث مطلقاً بحقوق الشعب السوري، وبعض هذا اليسار يستند إلى معاداة الرأسمالية التدخلية. أيضاً، ثمة يمين ويمين متطرف يصلان إلى نتيجة مشابهة، فيفضّلان الديكتاتورية في منطقتنا ما دامت تستطيع ضبط حدودها، وتتكفل بالقضاء على المتطرفين، المحليين أو المُعاد تصديرهم من الغرب نفسه. هذا ميل يكاد يكون غالباً، مفاده الحجْر على مجتمعات بأكملها تحت زعمين مختلفين، لكنه في الحالتين ينفض اليد من مركزية غربية سابقة إلى مركزية غربية منغلقة على ذاتها، ربما لا تضمر فوقية أو عنصرية أقل من سابقتها.

اليسار الحامل لقيم «تقدمية» غربياً يتناسى أن نجاحاته كانت ممكنة فقط في النظام الديموقراطي، وأن أقلمة مفاهيمه في بلداننا غير ممكنة إلا من البوابة نفسها. هذا اليسار الذي يقارن بعضه بين طغاة وأصوليين يتناسى أنه بالأحرى يقارن بين يمينين لا يستحق أحدهما الانحياز إليه، فالطغاة والأصوليون في منطقتنا يتقاسمون القيم ذاتها بدرجات متفاوتة، من عداء للغرب والديموقراطية إلى عنصرية فظة إزاء الآخر (الذي يتضمن هنا الآخر سياسياً)، مروراً بالمنظومة الحقوقية المتدنية جداً، فضلاً عن انعدام حس العدالة لدى الطرفين، وبالطبع تلك الانعزالية التي تضمن الحفاظ على اللائحة القيمية المتدنية من تأثير الخارج.

من نافل القول إن اليسار في منطقتنا هامشي، ومشرقي في المقام الأول بمعنى عدم مجيئه من أصول فكرية ديموقراطية وعدم سعيه إليها، وهو بذلك يضمر فوقية وعداء للعموم ليتوّجه بالتحالف مع الطغاة.

مَن هم معنيون بالقيم الإنسانية المشتركة، ودفعها قدماً، فوق قلتهم، لا يشكلون مصدراً للتأثير في مجتمعاتنا. العلة ليست في القسمة بين فسطاطين من الجهل والمعرفة، هي في أن المعرفة لدينا لم تصبح مصدراً من مصادر الثروة، والقوة تالياً، على المستوى الكلي، ولا تزال مقتصرة على ما هو نظري أو فني من العلوم الإنسانية، أي تلك الفروع التي تنشد الدعم بدل كونها جزءاً من الناتج القومي. هذا الموقع لا يتيح لأصحابه المنافسة في إقامة صلات مصالح مع الطبقة السياسية الغربية، وبالطبع لا يتيح لهم المنافسة المحلية في «سوق» تتوزع بين طغمة تحتكر كل شيء ومجموعات تحاول منافستها باحتكار الرأسمال الرمزي العام متمثلاً بالدين وإرثه الثقافي. من هذا الموقع يصعب تصور دور «تبشيري» لها، أما حضورها الخارجي فلا يتعدى حتى الآن رغبة بعض الغرب في التعرف ثقافياً على «نخب» الآخر أو تشجيعها.

النافذة الوحيدة التي قد يفتحها الغرب بعد حين هي إطاحة التركيبة السياسية الحالية، بجناحيها التقليديين وما بينهما. فأي نقد لصعود اليمين ما لم يلحظ فشل اليسار ويأس الناخبين منه سيتغاضى عن السبب قافزاً إلى النتيجة فقط. لن يحدث هذا لأجلنا، بل لكونه حاجة غربية أولاً، ولكون الذين سيقودون التغيير يملكون قوة مادية ورمزية في مجتمعاتهم، ويملكون نظاماً قادراً على استيعاب القطيعة معه. من هذه الوجهة، قد يكون صعود اليمين المتطرف علامة تركيبة تحتضر أكثر من كونه دلالة على تدهور حثيث. أسوأ السيناريوات، ربما، هو تبرؤ الطبقة السياسية من ظواهر تشبه ترامب، وتجريدها من دلالالتها، ومن قوة اليأس فيها، لإبقاء خيارات شعوب الغرب وخياراتنا بين السيء والأسوأ.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى