صفحات الثقافة

يوسف رخا: لا دعم خارج “الجماعة الأدبية”/ سارة عابدين

 

 

بالنظر إلى مفهوم الرقابة، يبدو أن التعريف المبسط له، هو القمع في مقابل حرية التعبير، لكن عند النظر بشكل أعمق إلى هذه المقابلة بينهم، سنكتشف أن الرقابة ربما تساهم في أماكن وأزمنة مختلفة في تشكيل مفهوم الأدب، كما هو الحال في الأنظمة الشمولية السلطوية، التي لا تنظر إلى الفنون إلا كأدوات دعائية لها، أو ركائز جماهيرية ترسخ لسلطتها بشكل جماهيري، وهذا يعتبر النوع الأكثر تداولا وجماهيرية من الرقابة. لكن هناك نوعا آخر من الرقابة، يدور بعيدا عن المؤسسات الأخلاقية، والسلطات، ومتون الرقابة المتعارف عليها؛ وهو رقابة الجماعة الأدبية، على الكاتب المغرد خارج سرب وقوانين الجماعة، تلك الجماعة التي تحتكر تحديد المتن والهامش وتوزيع المكانات وفقا لهيراركية مضمونة، تحديد ماهو المفهوم الجمالي السائد، وماهي وظيفة الكتابة، ما هو أدبي وما هو سياسي، تقدم أعمالا وتستبعد أخرى، بنظرة أكثر اتساعا، يمكن النظر إلى الهيكل التنظيمي المفترض للجماعة الأدبية بوصفه النقيض الكامل لفردانية الكاتب المغرد خارج السرب.

في 17 سبتمبر/ أيلول، استضاف صالون ابن رشد بالقاهرة، الكاتب والروائي يوسف رخا، لمناقشة مفهوم رقابة الجماعة الأدبية على الكاتب، في ندوة أدارها الروائي أحمد زغلول الشيطي بعنوان “السرد والرقابة، شهادات ومناقشات” ضمن سلسلة الندوات الأدبية التي بدأها الصالون تحت عنوان “السرد والرقابة”.

يقول الشيطي في البداية، إنه لم يكن يعتقد أن يوسف رخا، قد يهتم بالحديث عن فكرة الرقابة، أو يعاني منها بالأساس، ولا سيما، إنه  يكتب باللغتين، العربية والإنكليزية، وينشر مقالاته في جريدة الأهرام ويكلي، ويستعمل مدونته الشخصية أيضا لنشر ما يهمه بشكل خاص.

يرى الشيطي في كتابة رخا مع آخرين، تحولا واضحا في شكل ومضمون السرد، بين سرد جيل الستينيات، وجيل ما بعد الحداثة حيث تغيب الحكاية الكبرى وتتحول الرواية إلى بحث شكلي عن الرواية، كما هو الحال مثلا في روايته الأخيرة “باولو” التي تؤرخ للفترة التالية لثورة “25 يناير” في إطار تدويني متمثلا في 59 تدوينة، نتعرف من خلالها على البطل، وعلى إحباطاته الشخصية، من خلال رسائله إلى صديقه، التي يحاول فيها رخا بناء الرواية في سردية محكمة، لا تحيل إلى الواقع بل تحيل إلى ذاتها، مع بناء شخصية روائية تقف على مسافة من شخصية الروائي، دون أن تتحول الرواية إلى مجرد سيرة ذاتية أو مساحة للبوح.

جيل ما بعد الستينات

لا يتفق رخا تماما مع مصطلح ما بعد الحداثة، ويعتقد أنه مصطلح له سياقات متعددة، قد لا تتفق مع مشروعه الكتابي، ويفضل استخدام مصطلح ما بعد جيل الستينيات، حين كان المشروع الأدبي جزءا من مشروع وطني كبير، لا ينفصل عن الواقع اجتماعيا وقيميا، وتاريخيا، عكس كتابته، التي تهدف بقدر كبير إلى تخريب الواقع، والنحت في اللغة بشكل أكثر عمقا من مجرد حكاية، ويعتقد رخا، إن هذا التجريب اللغوي هو الذي يساعد على تطور اللغة وتجديدها، لتصبح أكثر حداثة ومواءمة للتطور المجتمعي.

ربما تتمثل الرقابة الأدبية، في تباين الذائقة الأدبية، بين شخص وآخر من الجماعة الأدبية ذاتها، وهو ما أبدى رخا رغبته في التحدث عنه، لأنه مصطلح شديد العمومية بحاجة إلى تحديد ماهيته وإعادة تفكيكه من جديد.

في محاولة للتعرف على ماهية الجماعة الأدبية، يتساءل الشيطي: هل تمثل الجماعة الأدبية جماعة التماسيح الأدبية وأعضاءها الذين كانوا أبطال روايته، وما لحق بهم من مصائر، أم تمثل جيل التسعينيات أمثال الراحل أسامة الدناصوري، وأحمد يماني، وياسرعبد اللطيف ومحمد ربيع، والذي يرتبط بهم رخا بأواصر وطيدة، أم تمثل الجيل الأدبي الذي ينتمي إليه الكاتب، أم ربما يكون المقصود بها أكثر شمولا، ويمثل من يمارسون الكتابة في هذه الفترة من الزمن.

ما هي الجماعة الأدبية

يحاول رخا إزاحة بعض الغموض عن مفهموم الجماعة الأدبية الملتبس فيقول، إن الكاتب في مصر أو العالم العربي حاليا، ليس له علاقة مباشرة مع الجمهور، بينما الكاتب بحاجة إلى سياق أكثر قربا، لكي يشعر بجدوى الاستمرار في الكتابة، التي يقوم فيها بالرد على الأسئلة المتداولة لأصدقاء أو معارف أو جهات أو حتى الأسئلة التي تشغله بشكل شخصي. هذا المجتمع الضيق، المحكوم بالعلاقات والمجاملات الأدبية، هو الذي يقصده صاحب باولو، تلك الجماعات الصغيرة المغلقة على نفسها من كتاب ونقاد، التي تتحكم بشكل ما في تمرير كاتب إلى الجمهور، أو منعه ولو بشكل مستتر دون آليات المنع المؤسسية، ويرجع ذلك إلى عدم توافر المناخ الأدبي والإبداعي الحر، وقدرة القارئ على اختيار ما يناسبه دون توجيهات.

يذكر صاحب “بيروت في محل ما” أنه عند سفره لأوروبا، وجد مناخا أدبيا مختلفا، يتيح للمتلقي حريه الاختيار دون توجيه، يمثل السوق فيه السطوة الأكبر، بالإضافة إلى وجود العديد من الجوائز التي تغطي كافة أنواع الأدب، حتى السوقي أو التجاري منه، بالإضافة إلى كونها تمثل بديلا للعائلة الأدبية الكبيرة، التي تحاول فرض نفوذها على المنتمين إليها.

تختلف الروائية ضحى العاصي إلى حد ما مع رخا فيما يخص اعتبار الجماعة الأدبية، مدخلا يقدم الكاتب للجمهور، وتؤكد أن الأعمال الجيدة تصل إلى الجمهور دون وساطة من أحد، حتى ولو بعد حين، ويمكن أن يكون دعم الجماعة الأدبية مدخلا لتعريف أكثر بالكاتب، لكنه لا يعمل أبدا على ترسيخ العمل الأدبي في ذهن المتلقي، بالإضافة إلى أن الاستمرار في الكتابة، يجب ان يكون نابعا من داخل الكاتب، وليس مكتسبا من أي أسباب خارجية تخص الجماهير أو النقاد أو متطلبات السوق.

رقابة الجماعة الأدبية

يذكر صاحب التماسيح أنه بحكم عمله الصحافي، مر بتجارب رقابية عديدة سواء كانت رقابة مؤسساتية، أو رقابة ذاتية، ولكنه استطاع تجاوز أغلب أنواع الرقابة، بينما النوع الذي ترك فيه أثرا كبيرا، هو رقابة المجتمع الأدبي الصغير، الذي مازال يعمل وفق التسلسل الهرمي للبيت الكبير، أو بيت العائلة، الذي لا يسمح لأحد بالخروج عن قواعده، ويحول كل الخلافات في الرأي أو التلقي إلى خلافات شخصية، تجبر الكاتب على قبول الجماعة بكل مساوئها، ودعم خطابها بشكل مستمر، خوفا من النبذ أوالشعور بعدم الانتماء إلى كيان ما، مما يجعل الكاتب أكثر اهتماما بالولاء في مقابل الدقة، ويذكر على سبيل المثال الشاعر والروائي ياسر عبد اللطيف ويقول إنه صاحب سلطة جبارة، ويقصد السلطة المعنوية، التي ربما تساهم في تشكيل المحتوى أثناء الكتابة، وتجعل الجميع يتسابق إلى معرفة رأيه في نتاجهم الأدبي، ويتضح هنا مفهوم رقابة الجماعة الأدبية، التي تتحول إلى ما يشبه رقابة ذاتية تغير توجهات الكاتب وفقا لمنظومة الجماعة الأدبية، هذه الرقابة التي تمثل ضريبة يدفعها الكاتب من أجل الانتماء، وخوفا من الإقصاء، الذي يشبه في آليته، تكفير جماعات الإسلام السياسي للمنشقين عنها.

يذكر رخا أن روايته الثانية التماسيح، لم تستقبل بنفس حفاوة أعماله السابقة، لأنها تتناول حياة ومآل جماعة شعرية نشأت في التسعينيات، مع إحالات واضحة لأسماء شعراء مجايلين لرخا، والذي اعتبرته الجماعة الأدبية في حينها انشقاقا عنها، وتهديدا لمكانات أصحابها ومكتسباتهم الأدبية.

لا دعم خارج الجماعة

في مداخلة للصحافي أحمد شوقي تساءل فيها عن سبب انتشار”الطغري” والاحتفاء بها بالرغم من بعدها عن تصنيف الأدب الجماهيري، وصعوبة اللغة الخاصة بها.

يقول صاحب “كل أماكننا”، حين صدرت الطغري كنت أنتمي إلى جماعة أدبية كبيرة تدعمني، كجزء منها؛ حين أكتب مقالا، أجد التعليقات والمشاركات قد تجاوزت الـ 150 تعليقا ومشاركة، وحين أنظم فعالية لمناقشة أعمالي، يحضرها عدد كبير جدا من المهتمين، عكس ما يحدث حاليا بعدما أصبحت لا أنتمي للجماعة، لم أعد أجد نفس الدعم والحضور، في إحالة واضحة إلى قلة عدد الحضور في تلك الأمسية ذاتها التي نتحدث عنها، والتي لم يتجاوز عدد الحضور الفعلي فيها ستة أشخاص.

في النهاية كانت الندوة أقرب لمتنفس لرخا، يحاول من خلاله أن يقترب بشكل مباشر أكثر من جمهور لم يحضر، مما أكد أكثر على وجهة نظره التي تخص إقصاءه. لكن لا يمكن تصويره في صورة الضحية، أو الشخص المغدور به من جماعته الأدبية الأقرب، بل هو بالتأكيد شخص له اختياراته الحرة في الكتابة، أو كما قال عن نفسه (مستبيع)، رغبته في أن يقول ما بداخله حتى فيما يخص شعراء وكتابا معاصرين له، مازال الكثير منهم على قيد الحياة تغلب رغبته في البقاء ضمن البيت الأدبي الكبير؛ هو من اختار هذه العزلة أو هذا الإقصاء الأدبي، في مقابل الحرية الكاملة في الكتابة، تماما كما يقول على لسان الراوي في رواية التماسيح: “أنا أتحدث عن المكر والمهادنة، الجبن الذي يؤدي إلى التكتل حتى لو كان الانطلاق مدفوعا بالتمرد على الكتلة الاجتماعية”.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى