صفحات الثقافة

يوسف عبدلكي في بيروت/ أسامة غنم

كنت في الخامسة في مأتم جدي. في قرية صغيرة قرب اللاذقية. مات ابنه البكر قبل سنة فأصيب جدي بالخرف ومات.

حفروا القبر على بعد أمتار من قبر الابن الميت. تجمع الأهالي بقيافتهم الريفية عند نهاية الحاكورة.

كانت هناك خلايا نحل وكان الزيتون يتعرق بشدة. العشب كان يصل الى صدري.

كنت أضحك مع دموعهم. وشرعتُ أجتثّ العشب وأحشره في عبوة بيبسي صفيحية فارغة وصدئة وجدتها بالمصادفة هناك (لا بد أن أحدهم أتى بها من لبنان سنتها). ملأتُ العبوة المطقطقة التي ذابت الأحرف الزرق والحمر عن صفيحها وضحكتُ بشدة لسبب لا أعرفه. ثم، عندما مللتُ من المشهد الكئيب وهم يهيلون التراب، مضيتُ نحو أزهار البابونج العالية وعبرتها والشوك يرسم ركبتي في البنطال القصير الى الحاكورة التالية.

لمحتُ قبراً آخر. بقيتُ أضحك رافعاً ذراعي نحو السماء الصافية في السهل الفارغ تماماً ولا أذكر شيئاً أكثر من ذلك.

يرسم يوسف اليوم عائلة سورية أمام جدار ليس بجدار تعلوه صور موتى.

أتأمل اللوحة في الحاسوب المحمول في المقهى شبه الفارغ في دمشق الصامتة. أكبّر الصورة وأتأمل ثوب الطفلة الملتصقة بأمها التي تحمل صورة أخيها القتيل. الثوب موشّى بكمية كبيرة من النجوم. عددتُ ثماني وسبعين نجمة. هناك فراشة في شعرها هي حبكة شعر. الطفلة حافية مثل أمها. أم لعلّها جدّتها؟ لا عمر لوجه هذه المرأة الذي يخترق غطاء رأسها النظيف مثل غيمة.

في يوم جمعة حزين جلستُ في مرسم يوسف وكان صامتاً.

دوّت قذيفة واهتزّ الباب لثوان.

تأملتُ الطاولة الصغيرة: عليها إبريق الشاي وقطع كعك مدوّر من الفرن القريب. ثم تأملتُ اللوحة الرمادية بزهورها الرمادية وخلفيتها الرمادية.

بقي يوسف صامتاً. دوّت قذيفة أخرى. اهتزّ الباب من جديد.

بعدها بستة أشهر تأملتُ الخطّاف الرمادي العملاق، فيما ابتسم يوسف. فكرتُ في أن الخطاف يغدو شيئاً آخر اذا غدا بأبعاد كهذه، ولم أعرف ما هو ذلك الشيء. خلفه بدت قدما القديس يوحنا فم الذهب وقد امتدتا من خلف اللوح الخشبي الكبير الذي ثبّت يوسف عليه لوحة خطّافه. لوهلةٍ حسدتُ القديس الذي ينام بسلام خلف هذه اللوحات المصفوفة بعضها فوق البعض الآخر، ولا نرى سوى قدميه.

قبلها، في يوم الجمعة الحزين ذاك، وبعد الصمت الطويل، تحدث يوسف فجأةً. حكى لي كيف خرج صباحاً في مشوار اعتيادي ليشتري جريدة…

دوّت قذيفة جديدة واهتزّ الباب مرةً أخرى.

سار بعدها في السوق الفارغ حتى وصل الى الساحة الفارغة ثم، وعلى ناصية الساحة عند مقهى فارغ، سمع ضجة غريبة.

قبل سنتين اشترى يوسف بومة ووضعها في قفص مغلق بجوار أقفاص الحمام المفتوحة التي ارتجلها. اكتشفتُ معه وقتها كم هي جامدة البومة و”رزينة”.

بعدها اشترى غراباً.

مرةً، ونحن نشطف أرض الديار في مرسمه، رفعتُ خرطوم الماء ورششتُ الغراب به. حدّق الغراب فيَّ بحقد ورشّني يوسف بالماء نفسه.

اقتربت من الضجة.

كانت هناك امرأة ستينية. غالباً مهجّرة. اقتربت من رجلين وطلبت منهما شيئا. نهرها أحدهما.

حاذيتهم في تلك اللحظة تماماً.

كلاهما في عمرها أو أقل بقليل. استدارت عنهما ومشت.

أدركا فجأةً ما جرى.

لحق أحدهما بها وأخرج من جيبه ثلاثمئة ليرة أو خمسمئة. رفضت الالتفات اليه. مشت. لحقها. لم تلتفت.

هكذا، في خمسة أمتار أو أقل، في خمس ثوان أو أقل، اذا بالرجل يقول لها متوسلاً:

– بترجاكي خديهون.

هرب الغراب من دون أن يعرف يوسف كيف.

بالنسبة إلى البومة، هو أطلق سراحها وغادرت مرسمه على دفعات لأنها “رزينة”.

الغراب هرب، أما الحمام – الذي بروز يوسف ملصقاً عن أنواعه في مطبخ مرسمه – فلا يزال هناك.

دوّت قذيفة أخرى. طار بعض هذا الحمام وبقي بعضه الآخر “البليد” ساكناً.

روى لي يوسف المشهد ذاك بطريقته المقتضبة تلك، ثم رأيته يبكي للمرة الأولى.

في تأبين أم يوسف، قبل أكثر من سنتين، قال القسيس في الكنيسة: “اننا لم نكن نشاهد المرحومة كثيراً هنا في الكنيسة…”. صمت لبرهة ثم، وبعد تفكير، أضاف بلهجة شارحة: “وذلك لأنها بنت ليسوع كنيسة في قلبها”.

ضحكنا جميعاً، وضحك معنا القديسون والطفل الجميل في المهد والضوء الدافئ عبر النوافذ الزجاجية الملونة.

عندما خرج يوسف من القصر العدلي، توجه الى مطعم بوظة شعبي وسط سوق الحميدية. جلسنا كلنا حوله وضحكنا من جديد. بدل الهالات الذهبية خلف رؤوس صاحب العشاء ورفاقه، توزعت على الطاولة صحون البوظة وأزهار دمشق البلاستيكية الصينية.

“تصوّر… جعل يتوسل اليها أن تقبل ولم تقبل”.

أغمضتُ عينيَّ وتخيلتُها تقطع الشارع الى الساحة الى الشارع الى الساحة ومنها الى الشارع حتى الساحة فالشارع من جديد ومنه الى الساحة…

فتحتُ عيني وطالعتني قدما يوحنا المستلقي خلف اللوحات.

أنظر الى الطفلة ونجوم ثوبها الثماني والسبعين. أتذكر علبة البيبسي الصدئة المترعة بالعشب النضر.

أتأمل قدمي الطفلة وقدمي يوحنا وقدمي أمها الحافية النظيفة.

أفكر في حرية الغراب والبومة.

والدم الرمادي في اللوحات. وحمرة اللطخة التي يشمّ بها يوسف بشراسة رسومه المنتهية الى الأبد كما لو ليكفر بها.

تدوّي قذيفة أخرى. يهتز الباب.

يواصل يوسف الرسم.

يبتسم يوسف، اذ يشعر باختناقي أو اختناق أيٍّ من ضيوفه. يقترح الشاي أو القهوة أو الكركديه أو حتى الطبخ. ثم يقول مبعثراً سيدياته، منغّماً صوته:

“طيب، شو حابب نسمعك؟”.

يمتد صوت في مرسم وسط دمشق، خارجاً من فم ذهب، يحكي عن رسامنا:

“يا هالعريس بلادك ما رأيناها

يا بدلتك من جبل عجلون قطعناها…”

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى