صفحات مميزة

يوسف عَبْدلكِي , ملكُ الأبيض والأسود في زمنِ حُكْمِ الألوان

 

 

” لا أعرف ماذا أسميها ! أشياءٌ ليست كلها أشياء، طبيعة صامتة ليست صامتة، طبيعة ميتة، أين الموت في كل هذه الخلايا النابضة؟ طبيعة ساكنة، ليست كذلك أيضاً، فحتى جدران الأسمنت المسلّح ليست ساكنة، طبيعة جامدة … ربما … ربما إذا قُصِد من ذلك أنّ ما يُراد رسمه حيّ، ولكنه يجمِّد نفسه للحظة مثلما كان أجدادنا يُجمّدون عيونهم أمام آلة التصوير القديمة في الشوارع، ومن ثُمَّ ليعاودوا الحياة بعدها . “

يوسف عبدلكي .

دائماً ما نبدأ حديثنا عن الشّخصية الفنيّة بسَرْد سيرتها الذّاتية ، مكان ولادتِها ، تاريخ حياتِها ومن ثمّ ننتقلُ إلى الأعمالِ اّلتي أنجزتْها .

دعُوني اليوم أسرد السّلسلة بشكلٍ معكوس ، وأبدأُ بحديثي عن ثُلاثيّةٍ فنيّةٍ آسِرَة ، تحفةٍ عتيْقة ونادرة ، يرسُمها طالبٌ في كُليّة الفنون الجميلة في دمشق كمشروعٍ للتّخرّجِ (عام 1976 ) ، بقلمٍ رصاصٍ أَعزَلْ ! يطلق عليها اسم “أيلول الأسودْ” ، يقسمها لثلاثِ مراحلَ زمنيّة:

(البِدْء . التّنفيذْ . الأَمَلْ )

يُجسّد فيها أحداث أيلول عام 1970 ويثبت قدرة الفنّ على توثيقِ الّلحظة وتَقييد الزّمن والاستمرار معه إلى مستقبلٍ بعيدٍ بُعْدَ الأفق !

يكتب بقلمه تحت كُلٍّ من هذه اللّوحات الهائلةِ الحجم ، تفاصيلَ مرعبةً عمّا تعرّض له الفلسطينيون في تغريباتِهم المُتكرّرة ، ويتحدّى بأسطورته هذه ، “جرنيكا” بيكاسو الشّهيرة ، لِتحمل اليوم لوحة أيلول الأسود لقبَ ” ثلاثية عبْدلكي” ولتُسرَق لاحقاً على يدِ جيش الاحتلال الاسرائيليّ أثناء اقتحامه لبيروت …

أيقونتنا الثّمينةُ اليوم هي يوسف عبدلكي ، مواليد مدينة القامشلي السّورية ، ترعرع في دمشق ويَصحّ ربما أن أقول ترعرع بمرسمه في حيّ سارُوْجَة “الدّمشقي” حيث كان مَمْلكته الفنّية ، الحُرّة بخيالاتها ، والّتي يَفرض بها سُلطته على لوحاتِه الفحميّة ، جاعلاً من العناصر الهامشّية بالحياة ومن النّوافلِ أبطالاً على مسرح أعماله العريض ، يُسلّط الضوء عليها يبثُّ فيها الحياة ، فلا تُصبح مجرّد طبيعة صامتة كما يُصطَلَحُ عليها فنيّاً ، بلْ تصبح كلّاً من هذه النوافل مُتحدّثاً طليقاً بالإنسانيّة وبحقِّ الحياة ، يمتلكُ المساحة والفراغ وفنّ التّحكم بالحيّزِ والدّلالة الرّمزيّة ، يخلق تدرُّجاتٍ من الرّماديّ تُغني عن ألوان الدُّنيا بما فيها، فتصبح لوحاتُه شبيهةً بأفلام السّينما القديمة (الغير ملوّنة) ، التي أصبح وجودها اليوم بين ضَخِّ الأفلام الملوّنة – لوحده – مدعاةً للتّفكير والتّأمل ، وسبباً لوضعها في خانةِ “المقصود” .

حسمَ أمره بممارسة الفن كعشقٍ أبديّ عندما كان في الخامسةِ عشَر من عمره ، كان النّحت على المعادن ورسم الباستيل و الكاريكاتير الّذي توجّه إليه بدايةً بناءً على رغبة والده – المولع بالسياسية – مرحلة انتقالية ليكتشف من خلالها قُرب الفحم من شخصيّته .

يقولون أنّ عبدلكي فنّانُ الطّبيعة الصّامتة … يستغرب بشدّة هوَ هذا القول! فهو يستنكر هذه التّسمية ويعجز عن ترجمتها بمعنىً لُغويٍّ آخر – فلُغته الوحيدة لطالما كانتْ الرسم – يرى التّعبير الأدقّ ربّما هو الطبيعة “النّاطقة” وليس الجامدة أو الصامتة أو الميتة كما تُسَمى أكاديميّاً ، كيفَ يمكن أن نرى هذا الكَمّ من الحُزن والعُنف والعواطف الجيّاشةِ في لوحاتِ شخصٍ واقعيٍّ – كما يقول عن نفسه ! – وأنْ نقولَ عنها طبيعة ميّتة ؟ … فإن كانتْ حقّاً ميّتة فهو بشهادةِ الفنّ قد أحياها .

انتقلَ من فكرةٍ إلى أخرى ومن إبداعٍ إلى آخر مُسيطراً على عناصره سيطرةً تامّة ، مُعتقداً بكلّ حواسّه أنّ الفراغَ والخلفيّة ليسا مُجرّد مساحاتٍ قاحِلة ، وإنّما هما فضاءٌ مشحونٌ ، تسبح به تلك المكوِّناتُ الصامتة ، لتغرس في عقل ورُوح كلّ من يراها نصّاً مسرحيّاً مُتكاملاً ، فلا تبقى السّمكةُ سمكةً بل تصبح لوناً رماديّا من شوقِ الاعتراضِ على الموتْ ، ولا تبقى الوردةُ وردةً ، بل تصبح معنىً من معاني الحياة .

إهمالُه للألوان .. رُبّما جاء من هُنا ، ومن النّحاتِ بداخلهِ … فـ لطالما أغرته الشّرايين والعضلات وحُضور الجسد أكثر من السّحنة !

حمامةُ السّلام …جلسةٌ لاحتساء الشّاي على رقعةِ الشّطرنجْ ، سكّينٌ وصحنٌ وطائرٌ جريح وسمكةْ، حذاءٌ نسائيّ ، قبضةٌ مَبْتورة … ببساطة هو طفلٌ يشاكس بقلمه على الورقة متخطيّاً كلّ الحدود والنّسب ، تُزعجه استدارةُ الصّحن ف يَعوِجُها ، تُربكه النّسب المدروسة فيتخطّاها ضمن حدود “السّلامة” البصرية ، ليجعلك تسبح معه في عالمٍ من العُمق ، يزداد عمقاً كلّما غاص فيه النّاظرُ أكثر .

صدرتْ له بعضُ الدّراسات، منها (تاريخُ الكاريكاتير في سوريا) في العام 1975، ثمّ واصل دراسته الفنية في مدينة باريس في المدرسة العُليا للفنون متخصّصاً بفنّ الحفر والطّباعة (غرافيك) وتخرّج في 1986 ، ليُكمل بعد ذلك مسيرَته ويحصل على شهادة الدكتوراه في 1989 وسلسلة من المعارض الفرديّة والجماعية العربية والعالمية …

لعلّهُ من أجمل ما قرأتُ عن يوسف عبدلكي هوَ تصريحٌ شخصيٌّ وَرَدَ في صحيفةِ “العَرَب” بقلم فاروق اليوسف:

” لقد رأيتُ في بيت أحد الأصدقاء لوحةً من عبدلكي ، كانت مُعلّقة في غرفة الاستقبال ، ولم تكن تلك الّلوحة تضمّ على سطحها إلا زوجاً من الأحذية النسائية ، مدهشٌ أن يكون ذلك الاستقبال رائعاً . كُنت طوال الجلسة أنظر إلى الحذاءين ، وأنا أفكّر بخيالِ من رسَمَهُما . كان عليَّ أن أفكر في واقعةِ حُبٍّ امتلأَ الرّصيفُ الباريسيُّ بنغمها التّائه ! ”

وأقتبس هُنا ، في الختام ، مقطعاً من مقالةٍ نقْديّةٍ للفنّان “أميل منعم” يخصُّ بها لوحة القبضة المبتورة مُسقطاً إيّاها على شخصِ عبدلكي الفنّان:

” جرت العادة أن يرسم الفنّانون صورهم الشّخصية، وإذا كان الفنان هنا، أو لم يكنْ، من مُحترمي هذا التّقليد العريق، سأسمح لنفسي دون حرجٍ أن أُعلن أنّ هذه اللّوحة هي الرّسم الشخصيُّ ليوسف عبدلكي بتمام الهيئة والمَلمح.

هو الفنان ، يعرّف عن نفسه بيده وقبضته ولا يملك غير يده لتُعرِّف به. ما من عملية بترٍ تُفلح في شلّ قبضته أو إفراغ مخزونها … ثابتٌ في وسط المسرح، مكشوفٌ وعارٍ تحت الضّوء المُركَّز، حاضرٌ حضوراً بليغاً، ملتصقٌ بعالمٍ محسوس وواضح وصريح. يعرف مكامِنَ الجمال ويتجنّد لصناعة النّماذج عنه ووضع الخرائط للمسالك المُوصِلة إليه.

وإذ يُهدي هذا العمل إلى جيل السّبعينات، فإنّما يُقدِّم نفسه أيقونةً تذكاريةً يُهديها إلى أبناء جيله كُلّه” .

 

 

http://www.syr-res.com/article/R5019.html

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى