صفحات الناس

يوميات سوريّ يبحث عن بيت في لبنان/ يوسف بزي

 

 

لنقل إنّه سوريّ متوسّط الحال، ابن مدينة، من حلب مثلاً. وهو في منتصف العمر ولديه دخل معقول. وليكن متعلّماً أيضاً، رصيناً ومسالماً. لديه أسرة صغيرة، ولدان على الأكثر، وزوجته سيّدة أنيقة.

لنقل إنّه معارض مدنيّ، ولم يعد باستطاعته العيش في مناطق يسيطر عليها النظام، ما دام رجال الاستخبارات يطاردونه. وكذلك يجد صعوبة بالغة في العيش داخل المناطق المحرّرة، حيث تنعدم الخدمات ويرزح الناس تحت قصف البراميل المتفجّرة. عليه فقط أن ينجو بأسرته وبنفسه من هذا الجحيم اليومي.

لذا قرّر هذا المواطن السوري “النموذجي” أن يلجأ إلى لبنان. لا يريد أن يسكن في مخيمات تركيا، ولا أن يذهب إلى اسطنبول حيث لا عمل له ولا وظيفة ممكنة.

لا يريد أن يركب في قوارب الموت بالبحر المتوسط، ولا أن يتوه في غابات الحدود الأوروبية أو أن يقبع في معسكرات النازحين البائسة. ليس شاباً يائساً معدماً، ولا عائلة خسرت كل شيء. إنه مجرّد مواطن مع أسرته يبحث عن إقامة لائقة ومؤقتة في البلد الأقرب إلى وطنه.

سيتوجه إلى لبنان، وفي جيبه بضعة آلاف من الدولارات، ومدخول ثابت يؤمن له العيش الكريم. وسيظنّ، بهذا المعنى، أنّ الأمور ستكون بغاية السهولة والسلاسة. فهو ليس نازحاً يبحث عن خيمة وكرتونة مساعدات، ولا مستثمراً أو تاجراً هارباً بملايين الدولارات.

في لبنان، سيكتشف أنّ من المستحسن ألا يستأجر منزلاً في مناطق شيعية، خصوصاً في ضاحية بيروت الجنوبية. ومن الأفضل ألا يبحث عن منزل في مناطق المتن الجنوبي (الشويفات، عرمون، خلدة، بشامون..) فهناك سيجد أنّ السكان هم خليط من طوائف متجاورة ومستنفرة، وغالباً ما تقع صدامات عنيفة فيما بينهم، كما أنّ إداراتها البلدية تمنع السوريين من التجوّل بعد مغيب الشمس.

كذلك فإنّ فِرَق “حزب الله” توثّق المعلومات عن كل سوريّ يعمل أو يسكن في تلك المناطق.

من الحكمة أيضاً ألا يفكر أبداً في الذهاب إلى الجنوب. فالسوريون هم إما عمال زراعيون أو شغّيلة بناء وورشات ومعامل، ويتعرّضون إلى الرقابة الأمنية اللصيقة، وأيّ شبهة بأنّ أحدهم يعارض النظام السوري قد تودي به.

أما الشمال فهو خطر، حيث تندلع بين الحين والآخر اشتباكات في طرابلس، وحيث الأجواء دوماً مشحونة ومضطربة، والصدامات المتكرّرة غالباً ما يدفع ثمنها السوريون. وحتّى القرى المسيحية في الشمال أيضاً لا تسمح للسوريين بحرية الحركة، وهي لا تقبل منهم إلا العمال الذين تحتاج إليهم.

عملياً، ومن أجل العمل والمسكن اللائق ومدرسة الأولاد وشبكة الخدمات والتواصل الاجتماعي، سيتوجّب على هذا المواطن أن يسكن في بيروت.

لكنّ استئجار شقّة يكلّف ما بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف مثيله في سورية، وبمواصفات إنشائية وخدماتية أقلّ. سينصحه كثيرون أن يقطن في الجبل.

البيوت أرخص، والتلوث أقل، ولا ازدحام أو ضجيج. بيئة هادئة تكاد تكون مثالية. لكن من الأفضل أن يختار الجبل الدرزي لأنّ الجبل المسيحي لا يرحّب بالسوريين. العنصرية الاجتماعية هناك فاقعة، ولو أنّها ليست خطرة مثل السكن في المناطق ذات الأغلبية الشيعية مثلاً.

لكنّ العيش هناك في القرى الدرزية، يعني العزلة التامة. الضجر اليومي والصمت والوحدة. إن أراد أيّ ترفيه له ولأسرته عليه بالتوجّه إلى بيروت، وإن لنزهة على كورنيش، أو من أجل مشاهدة السينما، أو لقاء الأصدقاء.

إذاً، من الأفضل أن يجد منزلاً في بيروت. لكن أين؟

في منطقة الحمرا، يكمن خطر “القوميين السوريين” أعتى الموالين لبشّار الأسد، هم عيون السفارة السورية وأذرعها. في رأس بيروت أو فردان أو الرملة البيضاء، الإيجارات خيالية، أما في مناطق برج أبي حيدر والبسطة والنويري فتهيمن “حركة أمل” الشيعية، وهي أيضاً غالباً ما تمارس المضايقات على النازحين السوريين.

“الطريق الجديدة” منطقة شعبية ذات غالبية سنيّة، وهي لهذا السبب ما عاد ممكناً إيجاد شقة خالية فيها. إنّها مكتظة حتّى الامتلاء الكامل.

وإذا توجه ناحية “رأس النبع” فعليه الانتباه إلى الفارق بين غرب الشارع الرئيسي وشرقه. هي عشرة أمتار بالغة التمايز. وهي عينها الخطّ الفاصل طوال الحرب بين شطري العاصمة، فإن ذهب غرباً وقع في حيّ يرفع صور بشّار الأسد وحسن نصرالله ونبيه بري، وإن ذهب شرقاً فسيجد بيئة مسيحية متخوّفة وغير مرحبة، عدا تقاليدها البرجوازية واليمينية المتحفّظة.

وإن أوغل في شرق العاصمة، أي إلى داخل الأشرفية، فعليه التمييز بين الأحياء التراثية الأرستقراطية، حيث من الصعب أن يعثر على شقته الموعودة، وبين الأحياء الأخرى المتوسطة الحال، التي كانت في السنتين الأوليين للحرب السورية مرغوبة للهاربين من دمشق إلى بيروت، وباتت اليوم بدورها ممتلئة بالكامل، وشبه مستحيل إيجاد شقة للإيجار فيها.

ما بعد الأشرفية سيصل إلى “برج حمود” أو “سنّ الفيل”. لكن هناك، وقبل أسبوع، تم توزيع مناشير وعلّقت لافتات على جوانب الشوارع، تطالب بطرد السوريين من المنطقة. بل إنّ عائلات سورية هناك تسلّمت إنذارات بضرورة إخلاء منازلها بسرعة.

في رحلته بحثاً عن منزل صغير فقط: غرفتين وصالة، اكتشف كيف أنّ هذا البلد هو بلدان عدّة متصدّعة، بطوائفها وعصبيّاتها، وأنّ جغرافيته الضئيلة هي جغرافيات لا عدَّ لها، متراكبة على بعضها البعض.

اكتشف أنّ لبنان، كما سورية والعراق، جميعها لم تعد بلداناً بقدر ما صارت منعزلات وقلاعاً أهلية متحاربة، ليس لأمثاله فيها مأوى ولا فضاء ولا طريق.

كان صديقنا السوري يعرف أنّ لبنان بلد صغير، ولا يمكنه أن يستوعب مليون ونصف المليون سوري دفعة واحدة، لكنّه لم يتخيّل أن يكون ضيّقاً إلى هذا الحدّ، مجرّد “بيت بمنازل كثيرة”.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى