صفحات الناس

“يومٌ في حلب” لعلي الإبراهيم: تأريخٌ سينمائي للحظة إنسانية/ نديم جرجوره

 

 

رغم مدّته القصيرة (24 د.)، يُقدِّم “يوم في حلب” (2017) للصحافي السوري علي الإبراهيم صورة توثيقية، شفّافة وحادّة، عن قسوةِ عيشٍ في مدينة محاصرة بالقتل والخراب والعنف اليومي. ورغم خلوّه من الحوارات (كتابة علي الإبراهيم وفراس فيّاض، الذي يتولّى إنتاجه أيضاً)، باستثناء كلامٍ يتداوله أفرادٌ عديدون في يومياتهم، بشكلٍ عادي، بهدف الاستفادة القصوى من قوّة الصورة الواقعية في التعبير عن تفاصيل الموت والأمل، في حلب المدمَّرة؛ يتميّز الفيلم القصير بدقّته البصرية في التوغّل داخل التفاصيل البسيطة، لحياةٍ مُصابة بالموت، من دون أن تستلم له. ورغم سلاسته السردية الصامتة (إنْ يُمكن استخدام تعبيرٍ كهذا)، يتحوَّل عمل الإبراهيم إلى شهادة إنسانية، تمزج حقائق الإقامة في ظلال الموت وأشباحه، بتمسّكٍ عفويٍّ بحياةٍ يُراد لها أن تنبض، وأن تستمرّ في النبض.

جماليات الصمت

والشكل ـ الذي يُخرِج الفيلم من صفة العمل التلفزيونيّ، ومن تقاليد الريبورتاج ليتحصّن بجمالية الصورة والتوليف والتقاط المشاهد ـ يمتلك خصوصية البساطة القصوى في ملاحقة حكايات النصّ وشخصياته، وهي حكايات أناسٍ يبوحون بها من دون كلام، لرغبةٍ سينمائية في منح هؤلاء الناس/ الشخصيات حرّية التعبير، بحركةٍ أو بملمحٍ أو بنظرةٍ أو باشتغالٍ أو بغضبٍ يظهر ويخبو، فيقول (التعبير) ـ بثوانٍ أو بلقطات، ومن دون أن ينبس المرء بأي كلمة ـ ما تعجز عن قوله مفردات اللغة العربية برمّتها.

ومضمون النص معروفٌ ومُتَدَاولٌ في أمكنةٍ كثيرة، منذ اندلاع “الثورة اليتيمة” (وصفٌ للباحث اللبناني زياد ماجد، اختاره عنواناً لكتابه عن الثورة السورية، الصادر عن “شرق الكتاب” عام 2014)، في “الدولة البربرية” (كتابٌ للباحث الاجتماعي الفرنسي ميشال سورا عن سورية، صادر عن “المنشورات الجامعية في فرنسا” عام 2012). لكنه، في “يوم في حلب”، سيتحوّل ـ ببساطته وسلاسته وعفويته وشغفه بمراقبة حالاتٍ وانفعالاتٍ وحركاتٍ وأهواءٍ وأعمالٍ ـ إلى صورة مصغَّرة عن معنى العيش في “جمهورية القتل الأسديّ”.

وإذْ يُصبح النص خارج مألوف السرد التلفزيوني، فإن كاميرا علي الإبراهيم ستغوص في المساحات الواسعة للمدينة المدمَّرة، وللناس المُتعبين والمقبلين على الحياة في آن واحدٍ، وللأبنية المشوّهة، وللرغبات المتمرّدة على كلّ موتٍ وتدمير، ولطفولة غير آبهةٍ بحصار أو غبار أو ركام، لشدّة امتلاكها هوس التفلّت من كلّ قيد، إنْ يكن قيد أهلٍ أو بيئة ضيّقة أو شعور (مرفوض) بخوف (منبوذ)، أو قيد حربٍ مفتوحة على عُزَّلٍ يريدون حياةً، وينتصرون لها بممارسة أشياء بسيطة، هي ـ عملياً ـ أشياء أساسية للعيش.

الإطلالة الدولية الأولى لـ “يوم في حلب” تمنحه “تنويهاً خاصّاً” في مسابقة الأفلام القصيرة، في الدورة الـ 48 (21 ـ 29 أبريل/ نيسان 2017) لمهرجان “رؤى الواقع” (Visions Du Reel)، في المدينة السويسرية “نيون”. هذه خطوة لفيلم ـ شهادة تساهم في أن يبدأ رحلة مهرجانات وتظاهرات، منها “مهرجان كرامة ـ بيروت لأفلام حقوق الإنسان”، المُقامة دورته الثانية بين 11 و14 يوليو/ تموز 2017 (“ضفة ثالثة” ـ “العربي الجديد”، 27 يوليو/ تموز 2017). لكن الأهم يكمن في كونه انعكاساً بصرياً لحالةٍ إنسانية، مفتوحة على الموت والحياة، وعلى احتمالاتهما أيضاً، في مدينةٍ يُحاربها النظام الأسديّ في مرحلتي الأب والابن، لشدّة امتلاكها عراقةً في التاريخ، وحضوراً في الجغرافيا، وإبداعاً في الحياة، وعشقاً للتمرّد من أجل حقّ في العيش.

والانعكاس المقصود لن يقلَّ عن حساسية العدسة في التقاطها ـ زمن القتل الأسديّ الراهن ـ نبضَ شارع، وحيويةَ أناسٍ، وأهوال قصف وتدمير وتغييب، وخراب أبنية وأزقّة، وعنفَ قاتلٍ تظهر أفعاله في وجوهٍ وأمكنةٍ. فالحساسية تلك كافيةٌ لامتلاك جمالية الصورة البصرية في توثيق اللحظة وتأريخها ـ كقولٍ للفرنسي ألبير كامو، مفاده أن “الصحافي مؤرَّخ اللحظة” ـ وفي منح اللحظة نفسها بُعداً سينمائياً في توثيق مضمونها وتأريخه، كأن تُرافق الكاميرا مسعفين في سيارة لهم تحاول اللحاق بمصابين لإنقاذهم، فيُصاب سائقها بمقتلٍ؛ أو كأن تخترق جدران غرفٍ لالتقاط ما تعتبره الأسمى في ممارسة عيشٍ على حافة الموت؛ أو كأن تتجوّل في أزقّة تمتلئ بأفرادٍ يريدون عيشاً رغم كلّ غبار وخراب وفناء.

تناقضات الواقع

بهذا، يختفي الحدّ الفاصل بين توثيق اللحظة وتأريخها من جهةٍ أولى، والبُعد السينمائي من جهة ثانية، إذْ تتحرّر كلّ لقطةٍ من قيودٍ تقنية وفنية يُمكن أن تُحيلها إلى عملٍ صحافي أو إعلاميّ، فتضعها في إطار إنسانيّ محصَّن بغلافٍ بصريّ، أعمق من أن يبقى أسير تصوير عابر، وأجمل (رغم مأسوية اللحظة) من أن يكون، فقط، صورة منشورة في مطبوعة، أو مبثوثة تلفزيونياً. وإذْ يتيح واقع الحياة في حلب ـ في ظلّ الحرب الأسدية الراهنة على أبنائها وأزقّتها ومناطقها وفضائها وعمرانها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها ـ إمكانيات عديدة لتحصينٍ كهذا، فإن علي الإبراهيم يجعل من الإمكانيات منافذ حيّة لتبيان التناقض الحياتي في المدينة: من خرابٍ وقصفٍ وموتٍ واغتراب، إلى عيشٍ مفعم بحيوية تنبض عشقاً لحياة مؤجّلة، مع أن الحياة نفسها، رفقة هؤلاء الناس العاديين، تبدو كأنها أقوى وأجمل (رغم كل شيء) من أن تكون مؤجّلة.

والكاميرا، بهذا كلّه، تتمكّن من التوفيق، الإنساني والجمالي، بين تناقضات المدينة. فبالتعاون مع 7 مُصوّرين (مجاهد أبو الجود، وأبو تيم الحلبي، وخليل حجار، ومصطفى ساروت، وعمر أبو شام، وعبده فياض، وعامر حلبي)، تجوب الكاميرا أمكنة عديدة، وتلتقط حالاتٍ متنوّعة تبلغ، أحياناً، حدود التصادم في تناقضاتها: تحضير طعام لهررة، وتسخين ماء لتقطيرها، وشراء خضر وفاكهة، مثلاً؛ مقابل سيارة إسعاف تجوب أزقّة في لحظات حرجة، ويتعرّض مسعفوها لاحتمال موت أو إصابات بجروحٍ. أبنية مدمَّرة وشوارع مليئة بالأنقاض، مقابل أولاد يلعبون ويتسلّون، على إيقاع طائرة هليكوبتر تقصف أمكنة، فتنتقل الكاميرا منهم إليها، عبر سيارة الإسعاف تلك.

والأولاد أنفسهم يُشكّلون، بالنسبة إلى الناقد الإيطالي جيونا أ. نازّارو، أساس النص. يقول، في تقديمه الفيلم، إنهم يبدأون الرسم والتلوين على جدران المدينة، “بعد 5 أشهر من اختناقهم بحصارٍ غير إنسانيّ وميئوس منه، ومن قصف متواصل وأحمق”، في خطوة يعتبرها “حركة احتجاج ومقاومة صغيرة، كي يتجرّأوا على الحلم بالعودة إلى الحياة في مدينةٍ تُذَلّ بالرصاص والقنابل، على مرأى قوى دولية ومسمعها، (وهي قوى) لم تحاول فعل شيء لإنقاذ حيوات”.

والأجمل، أيضاً، ينكشف في غياب مطلق لحالاتٍ إنسانية تثير عواطف آنية مفتعلة، كعادة أفلام عديدة تبقى أسيرة خطاب انفعالي. فـ “يوم في حلب” يخلو من بكائيات ومرثيات وندبيات، ويمتلئ بأحوال واقعية، يُدركها أفرادٌ يُقيمون، كأبناء حلب، في مدن الخراب والفوضى والعنف اليومي والحروب. والتوثيق، إذْ يتطلّب قدراً عالياً من واقعية الاشتغال البصري، يتحوّل إلى ركيزة سينمائية، تجعل السرد الصامت فيلماً يمزج “تأريخ اللحظة” بجمالية العفوية في التقاطِ المطلوب. والالتقاط هذا يُعاد صوغه في توليفٍ (علي الإبراهيم وفراس فياض وأمير مصطفى)، يجعل الفيلم شهادة بصرية عن مدينة تعيش ألمها، وتعيش أملها أيضاً.

* ناقد سينمائي من أسرة “العربي الجديد”

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى