صفحات العالم

يوم سقوط الأسد: رابحون وخاسرون


إبراهيم الزبيدي

في أول أيام الثورة السورية، وبالتحديد في 27-3- 2011، كتبتتُ هنا هذا الكلام: “إن الذي يجعل نظام الأسد أضعفَ طرفيْ هذه المواجهة المصيرية الحاسمة بينه وببين جماهير الشعب السوري المنتفض هو أن هذه الثورة البارعة وضعته في مأزق حقيقي ليس له مَخرجٌ منه سوى الانهيار، في النهاية. فهو أمام خيارين لا ثالث لهما، وكلاهما  ُيفضي إلى سقوطه، دون شك”.

” فإن هو لجأ إلى القسوة (البعثية) التقليدية المتوارثة، وهو ميال إليها بطبعه الدموي الأصيل، وقام بحملات اغتيال واعتقال وحرق مساكن ونسف مساجد ومحو مدن وقرىً كاملة، كما فعل بحماة سابقا، فسوف يكون كمن يصب مزيدا من الزيت على النار التي تحاصره، ويضع الحبل حول رقبته بإحكام، وينسف جسور العودة.”

” أما إذا لجأ إلى أسلوب النفاق والمداهنة ومخادعة الجماهير بالرحمة والحكمة (المفتعلة)، وأبدى استعدادا كاذبا للحوار، وأرخى قليلا قبضتـَه الهمجية على المدن والقرى المنتفضة فسوف يجعل الجماهير تكتشف أنه فقد جبروته، وكشف عورته، وصار نمرا من ورق. وهذا ما سيدفع بها إلى رفع سقف مطالبها، شيئا فشيئا، حتى نقطة النهاية، مهما كانت التضحيات والخسائر من الطرفين.”

وها نحن نرى ونسمع ونلمس، بيقين، بعد عشرة شهور من القتل والقصف والحرق والخطف والاغتيال والاعتقال، والكذب والاحتيال، أن النظام يتآكل، قليلا قليلا، رغم مظاهر التماسك الخادعة، وأن الثورة تتسع وتقوى، وتزداد خبرة ومهارة في مقاتلته ومحاصرته وتجريده من معاونيه في الخارج، أولا، وداعميه في الداخل، ثانيا.

ولعل أكبر خطيئة ارتكبها، مرغما، بالإرشاد الروسي الإيراني الصيني الجزائري، هي قبولـُه بلعبة المراقبين العرب. فرغم أنها، في الأساس، كانت مجرد رفع للعتب من اختراع الجامعة العربية (العجوز المتعبة) هدفه الهرب إلى أمام، والتملص من مواجهة استحقاق الحسم والجزم، والتغطية على عجزها وعجز حكومات الأنظمة التي تمثلها، فقد تصرفت الجماهير السورية المنتفضة بحنكة ومهارة، وحولت تلك اللعبة إلى حبل قوي لخنق النظام وتجريده من وسائله القمعية التي أخرت ساعة انتصارها، وخففت، قليلا، سرعة اندفاعها نحو النهاية المؤكدة.

ورغم جميع المآخذ على رئيسهم وبعض مراقبيه وعلى جامعتهم، أيضا، فإن البعض الشريف الشجاع منهم تمكن من كسر شوكة الأجهزة القمعية وعنجهيتها، وأراح الجماهير، ولو قليلا، من دبابات النظام وشبيحته وقناصيه، وسهلوا مهمة الانتفاضة، وفتحوا الطريق أمامها لتكمل مسيرتها، بسرعة أكبر، وبأقل القليل من الدم والدموع.

وحتى لو فشلوا، وسوف يفشلون في النهاية، فإنهم سيغادرون سوريا وقد كشفوا عورة النظام، وجيشوا العالم كله إلى جانب الجماهير السورية الثائرة، وأبطلوا مفعول النفاق الإيراني الروسي الصيني الجزائري، إلى حد كبير، وأثبتوا إمكانية إسقاط هذا النظام الأعتى من جبروت هولاكو وجنكيز خان والحجاج وصدام حسين، بالجهد المدني السلمي الأعزل، وبالزغاريد والأهازيج ودبكات الشعب العنيد الشجاع، نموذجا فريدا تاريخيا باهرا تحتذي به جماهيرُ أخرى عديدة في بلدان كثيرة في المنطقة والعالم، حتى صار اقتحام القصر الجمهوري، في النهاية، تحصيلَ حاصل، ومسألة وقت، ليس إلا.

من هذه المقدمة الطويلة جدا أنتقل إلى الفكرة المركزية في هذا المقال.

يتذكر قراؤنا الكرام ما حدث يوم سقوط نظام صدام حسين. فقد ظهرت قصص وأسرار لا حد لها، وخرجت من قصور أعوان الديكتاتور وثائقُ ومستندات ٌ خطيرة، وبيعت على الأرصفة صور وأفلامُ تفضح سهرات عدي وقصي ووطبان وسبعاوي، ومفاسد باقي أباطرة الأسرة الحاكمة.

من تلك الفضائح، مثلا، ما عُرف بـ ( كيوبونات النفط العراقي)، وهي قوائم موثقة تبين كميات النفط التي حصل عليها مرتشون باعوا ضمائرهم للشيطان، وطبلوا وزمّروا للباطل، ومنهم سياسيون وكتاب وفنانون مرموقون دوخونا طويلا بقيم الحرية والعروبة والمقاومة والنضال.

وبعد سقوط نظام القذافي، أيضا، أخرج الثوار كثيرا من أسراره إلى العلن، ونشروا أطنانا من الوثائق المهمة، عنه وعن دول كثيرة مرتشية، وحكام عرب وأجانب منافقين وشحاذين، كنا نراهم أسودا ثم تبين أنهم قرود.

منها مكالمة هاتفية مع القذافي بصوت رئيس وزراء قطر يشتم فيها دولة عربية كبرى مجاورة، رغم أنه لم يكفَّ يوما عن تقبيل أنوف حكامها. وقد فتحت هذه المكالمة، وستفتح، على قطر ونظامها أبوابا لم تكن هي في حاجة إلى فتحها، خصوصا في هذا الظرف الدقيق من حياة المنطقة.

ومنها أيضا وثائق الانقلاب البعثي المزعوم في العراق، والتي تطوع بنقلها محمود جبريل، رئيس المكتب التنفيذي الليبي السابق، إلى نوري المالكي زاعما أنه مشروعٌ مُتفق عليه بين القذافي وبين بعض المُعوَقين المتشردين البائسين من أيتام صدام حسين. الأمر الذي جعل نوري المالكي يسرع في استثمارها، دون تردد، فيشن حملة اعتقالات واسعة شملت مئات المواطنين العراقيين المناوئين له ولحزب الدعوة الذي يتزعمه، بذريعة أنهم بعثيون متآمرون، وهو يعلم قبل غيره، وأكثر من غيره، أن البعث مات من زمن بعيد، و(شبع موت)، وأن أؤلئك البعثيين النصابين الشحاذين الذين خدعوا معمر القذافي وباعوه قصورا في الهواء، لا يستطيعون دخول العراق، ولا حتى في الخيال.

وما ظهر في تونس ومصر بعد سقوط بن علي وحسني مبارك فلا يقل بشاعة عما ظهر في ليبيا والعراق.

إن االعبرة في ذلك هو أن كل نظام ساقط، خصوصا في دول نظامنا العربي العجيب، يترك بعد سقوطه قناطير مقنطرة من المشاكل والتفاعلات والانعاكسات التي ُتطيح بكثير من الرؤوس، وتزيح عن عديد من الوجوه أقنعة العفة المفتعلة والوقار الكاذب والوطنية الناقصة والنضال المغشوش.

أما في سوريا، فنظام حافظ وبشار الأكثرُ من جميع تلك الأنظمة الفاسدة ثراء بالأسرار والفضائح وجرائم القتل والاغتيال وحكايات العبث بأمن الدول والشعوب والأحزاب والأشخاص في المنطقة.

لذلك فبعد سقوطه القريب سوف تظهر أطنان من الشهادات والاعترافات والوثائق والأدلة على ما كان يفعله في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين والأردن والخليج وأوربا وأمريكا، والقطبين الشمالي والجنوبي من الكرة الأرضية الواسعة.

فهو نظام قائم أساسا على تمويل نفسه بـ (التشبيح) والابتزاز والغدر والتهديد بالقتل والحرق، وبإزعاج المجتمعات الآمنة.

ونحن، من أول ساعات سقوطه، سوف نتعرف على تاريخ خمسين سنة من عمره الرديء.

بدون شك، وبكل تأكيد، سنكون نحن أولَ الرابحين. في طليعتنا أبناءُ شهدائنا وأحفادُهم السوريون الشرفاء الذين انتفضوا ضد الظلم والفساد، ثم أشقاؤهم الديمقراطيون في الدول العربية والمنطقة والعالم، حتى وإن لم يذوقوا طعم شره وأذاه. أما الخاسرون بسقوطه، فحدث عنهم ولا حرج.

ففي لبنان، مثلا، سوف نكتشف مَن كان عميلا أو وكيلا أو أجيرا لدى مخابرات الأسد، وكيف جعلته زعيما ورئيسا ووزيرا ونائبا وزعيم حزب طويل وعريض.

ثم سوف نرى كيف كان يتم انتخاب الرؤساء والوزراء والنواب، وحتى المخاتير في بيروت وطرابلس وصيدا وصور وبعلبك، وغيرها، في سراديب المخابرات الجوية أو زواريب القصر الجمهوري في دمشق.

وكيف ومتى كانت الأسلحة والمتفجرات تنقل من إيران إلى لبنان. وكيف كانت مخابراته تشعل حروب الطوائف والمناطق بين أبناء الوطن الواحد، وتخرب وُتيتـم وترمل وتغيب الكثيرين في سجونها السرية المجهولة، من عشرات السنين.

وما هي حقيقة حزب الله، وكيف ومَن كان في دمشق وطهران يدير شؤونه، ويحركه وقت الحاجة، لاحتلال هذه أو تلك من أحياء بيروت، أو هذه أو تلك من مدن لبنان، أو باغتيال هذا الزعيم، أو اختطاف ذلك السياسي، أو التجسس على سين، وتهديد صاد، ورشوة عين.

ومَن من قادة المقاومة الفلسطينية (المغشوشة) المقيمين في سوريا أو فلسطين أو لبنان يعمل أجيرا لدى مخابرات الأسد.

ومن منهم وكيف كان يقوم بتنفيذ جرائم الاغتيال أو القتل أو افتعال المعارك أو إشعال الحرائق، هنا وهناك.

ومَن من ضباط المخابرات الأسدية، وكيف، كان ُيدرب ويجهز ويرسل عصابات البعثيين العراقيين، جماعة يونس الأحمد وعزت الدوري، من سوريا إلى العراق.

ومتى وكيف ومَن قام بتهريب المفخخات. ومَن وكيف ومتى قام بتفجيرها في بغداد أو النجف أو كربلاء أو تكريت أو الموصل أو الرمادي أو كركوك، ولأية غاية وأي هدف.

أما بشأن رفاقنا الرؤساء والوزراء والسفراء الحاليين في العراق، من أبطال المعارضة العراقية السابقة، فسوف نكتشف مَن منهم كان يعمل مُخبرا لدى أجهزة أمن النظام، أو جاسوسا لمخابراته على بسطاء العراقيين اللاجئين.

ومَن باع ومن اشترى وماذا اشترى من منافع ومرابع ومزارع في السيدة زينب وساحة المرجة والزبداني واللاذقية وطرطوس، بموافقة المخابرات، وربما بتمويلها كذلك.

وكيف ومتى وأين كانت  ُتصمم المخططات وُتتخذ القرارات لإثارة الخلافات والاحتكاكات والمشاكسات، داخل مؤتمرات المعارضة العراقية السابقة، من أيام لجنة العمل المشترك وحتى مؤتمر لندن الأخير، ومن بعده مؤتمر صلاح الدين.

وكم من الفضائح المشينة التي احتفظت بها مخابرات الأسد كان أبطالهَا بعضٌ من كبار قادة المعارضة العراقية السابقة، وبعضٌ من كبار زعماء الشراكة الوطنية الحالية، لتبتزهم بها وتهددهم بنشرها إن هم تمردوا وشقوا عصا الطاعة ولم يسارعوا في تلبية المطلوب.

أما من أسرار هذه الأيام وخفاياها العجيبة، والنظام في مأزقه الخانق الحالي، فسوف نكتشف متى وكيف ُهرب هذا الزعيم أو ذاك، مَن زعماء العراق ولبنان وفلسطين وإيران وغيرها، جنودا وأسلحة وأموالا لنصرة آل أسد على مواطنين عزل مسالمين لم يطلبوا سوى الحرية والعدل والخبز والكرامة، ولإنقاذ رأس النظام، أو تأخير سقوطه، وهو أكيد.

ثم مَن من رؤساء دول وقادة أحزاب وسياسيين وصحفيين وكتاب ومحللين وفنانين قبض من سفارات النظام أو سفارت إيران والعراق، وكم قبض.

الخلاصة. في انتظارنا قصص وحكايات وفضائح لها أول وليس لها آخر، وسنبقى سنوات طويلة نتداولها، ونسخر من أبطالها، ثم نترحم على شهدائنا الذين أزهق أرواحهم البريئة وعبث بأجسادهم الطاهرة قتلة ٌ كانوا َيتظاهرون بأنهم أباطرة وجبابرة، ثم اكتشفنا، بعد سقوط سيدهم، أنهم تافهون وجبناء كانوا يَسترون تفاهتهَم وجبنهم ووضاعتهم بهيلمان رئيس من ورق أتفه َ منهم وأكثرَ جبنا ووضاعة.

يومها سوف تبيض وجوهنا جميعا، وتسود وجوه عديدة راهن أصحابُها على انتصار الباطل على الحق،  وغلبة الشياطيين على الملائكة،  وهو رهان الحمقى والجهلة والقتلة والشبيحة والمجانين. اي

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى