صفحات مميزةميشيل كيلو

يوم في موسكو: ما الذي تغيّر؟


ميشال كيلو

حامت زيارة وفد من «المنبر الديموقراطي السوري» الى موسكو طيلة شهرين ضمن أجواء عمله العام . في البداية، تلقينا هاتفا من مستشارين في سفارة روسيا الباريسية تدعونا إلى زيارة روسيا في الوقت الذي نريده. يومذاك، كان ردنا: دعونا نتحاور قبل أن نتخذ قرارا بالزيارة. وهكذا كان: جلسنا وتحاورنا بكل صراحة ووضوح حول السياسة الروسية وموقفنا منها، وما اعتقدنا أنها أخطاء تقترفها. قلنا: إن صداقة روسيا مع سوريا لا ترجع إلى البعث ونظامه، بل هي سابقة لهما، وأنها بدأت بصفقة سلاح عقدتها حكومة خالد العظم عام 1954 مع الاتحاد السوفياتي حول تسليح الجيش السوري، ثم مرت بالاعتراف بالصين الشعبية ممثلا شرعيا للأمة الصينية، وأخيرا باتفاقية اقتصادية كانت الأكبر في تاريخ البلدين حتى هذا الوقت.

بعد عرض الوقائع، أكدنا أن الصداقة مع روسيا هي جزء من تاريخ سوريا الوطني ومن الوطنية السورية، وأن سياسات موسكو الراهنة لا تتجاهل هذا وحسب، بل هي تبدده وتقوّضه، علما أن روسيا ترفض ما تريده أميركا وإسرائيل: تدمير سوريا دولة ومجتمعا، وإخراجها من موازين قوى المنطقة والإقليم، وتبديل دورها وجعلها بلدا غير قابل للحكم أو للإدارة، لكونهما تخافان على إسرائيل والخليج من الديموقراطية السورية، وراغبتين في كبح الحراك الديموقراطي العربي ووقفه عبر القضاء على فرعه السوري. بما أن التدمير يتم الآن بيد النظام، فقد استغربنا أن لا تلاحظ موسكو ذلك، وأن تواصل دعم نظام يقدم خدمة استراتيجية لا مثيل لها ولا تقدر بثمن لخصومها، مع أن دعمه سيؤدي حتما إلى تدمير الموقع الروسي في المشرق العربي، مع ما سيترتب عليه من تلاش في نفوذ موسكو وحضورها داخل الوطن العربي، بل وفي القارة الآسيوية بأكملها.

وقد كان من المنطقي أن نطالب بتغيير سياسات موسكو، وبفتحها على سوريا أخرى: ديموقراطية وصديقة حقا لها، تريد الحفاظ على علاقاتها معها وتوسيعها، لأنها ترى فيها جهة تحمي استقلالها وحريتها، سبق أن وقفت معها خلال المحن والنكبات، وأعانتها على النهوض بعد الهزائم التي أوقعها النظام بها، أو التي سهل إيقاعها بها من خلال سياساته وخياراته.

هذا التناقض المفارق بين طابع العلاقة السورية الروسية وسياسات روسيا الحالية يضعف عمليا فرص روسيا في اتخاذ مواقف منصفة من جهة ومبشرة بالنجاح من جهة اخرى. وبما أن الوقت المتاح لدور روسي فاعل ومطابق لمصالح ومطالب الشعب صار محدودا يقاس بالأسابيع والأشهر، فإن على روسيا التحرك السريع، انطلاقا من أسس جديدة توجه سياساتها ومداخل مغايرة للمداخل الحالية التي تحدد خياراتها وفهمها للأزمة، يملي ذلك عليها طابع المعركة التدميرية التي يشنها النظام ضد الشعب والدولة، ونتائجها التي ستكون في مصلحة الغرب عموما وأميركا واسرائيل خصوصا، وتحتم المبادرة الى عمل سريع يتم بالتوافق مع المعارضة، بعد أن وحدت رؤيتها في مؤتمر القاهرة، وأقرت وثيقتين مهمتين تتعلق أولاهما بالصورة التي ستكون سوريا المستقبل عليها، والثانية بمرحلة الانتقال إليها، فلم يعد هناك أي مسوّغ جدي للحديث عن انقسام المعارضة السورية، علما أن إقامة هيئات مشتركة بين فصائلها غدت مطروحة بقوة عليها، وهي قيد النقاش وإن لم تصبح قيد الحسم بعد. لكن ضمير المعارضة الوطني الجمعي يجب أن يقودها في فترة غير بعيدة إلى إقامة هيئات كهذه، لا تمس بتمثيلية أي فصيل منها، ولا تقيد حركته أو حريته أو تحدّ من خصوصيته، مع أنها تنمي الجوانب التي يتقاطع فيها مع غيره، وتعزز قدرته على التفاعل بإيجابية مع بيئته السياسية.

لا بد إذاً من تحويل الوقت من سيف يقطع أعناقنا إلى سيف بيدنا، بوقف العنف الرسمي الأعمى المنفلت من عقاله الذي يبطش بالبلاد ويفتك بالعباد، ويزيد فرص التطرف والمذهبية والعسكرة، ويفتح أبواب سوريا أكثر فأكثر أمام جميع أنواع التدخلات الأجنبية، وخاصة الشديدة الإيذاء منها، التي تراهن على تدمير دولتنا ومجتمعنا، ما يضعف مواقع روسيا والمعارضة الديموقراطية / الوطنية في آن معا، ويفرض خيارات قاتلة على راهن سوريا ومستقبلها، خاصة إن انتصر النظام واستمر الصراع وتصاعدت الحرب ضد الشعب، أو وقعت صدامات يشرف عليها أهل السلطة بين مكوناته، أو تمزقت البلاد وتقسمت، أو تحول إلى قتال بالواسطة بين جهات دولية متنافسة تخوضه أطراف سورية متنافية… الخ. ولا بد من وقف العنف وحل الأزمة قبل انتخابات الرئاسة الأميركية، التي إن جاءت بالجمهوريين زادت فرص وقوع تدخل عسكري أميركي مباشر، وإن أتت بالديموقراطيين كانت حظوظ التدخل التركي المتعاظم هي أساس الدور الأميركي، الذي يمكن أن يتحول إلى دور مباشر في أي وقت.

هذه النتيجة الصفرية، التي يمكن أن تكون العائد الوحيد للدور الروسي في بلاد يبدو الروس وكأنهم لا يهتمون بتدمير دولتها ومجتمعها على يد نظامها، رغم استمراره منذ نيف وسبعة عشر شهرا بلا توقف، ستترتب على الأرجح على سياسة لا تمسك بالمفاصل الرئيسة للأزمة، وتفوّت على نفسها فرص إدراك ماهيتها الحقيقية، خاصة أن موسكو تساند الجانب الذي ينجز التدمير، سواء من خلال إغلاق أبواب الحل السياسي الداخلي، بيد السوريين ولمصلحتهم، أو عبر الإمعان في حل أمني انقلب إلى حل حربي لا يعرف أحد متى يتوقف، مع أنه صار جليا أنه يعني هلاك سوريا، التي تتحول شيئا فشيئا إلى مقبرة واسعة لشعب تكمن جريمته في مطالبته بحق طبيعي هو الحرية.

هل يراهن الروس على تسوية مع الطرف الأميركي، الذي حددت وزيرة خارجيته السيدة كلينتون خطا أحمر سيكون من الصعب تخطيه، عندما قالت: «إن بشار الأسد واهم إذا كان يعتقد أنه سيهزم المعارضة؟». وهل يتجاهلون معطيات الوضع السوري لأنهم لا يعلقون آمالهم على إنزال هزيمة بالمعارضة جعلها الاميركيون مستحيلة، بل عبر مساومة كبرى مع واشنطن شرطها ما قاله الوزير لافروف في رد غير مباشر على الوزيرة كلينتون: «لن تهزم المعارضة النظام»؟ أخيرا، هل تكون هاتان الاستحالتان بما تضمرانه من توازن للقوى واستمرار للعنف بوابة حل دولي يفرض على أطراف الصراع المحلية؟

هذه الاسئلة تطرح على روسيا سؤالا إضافيا مهماً هو: ما الذي يجبر الطرف الأميركي، الذي يربح من صراع لا يكلفه شيئا، على الانخراط في مساومة مع طرف روسي خاسر تجنبه ضياع حضوره ونفوذه في بلد مهم استراتيجيا وله دور فاعل داخل منطقة هائلة الحساسية والتعقيد، علما ان خروجه منه سيغير المعطيات السياسية والاستراتيجية المحلية وربما الدولية إلى زمن غير قصير، والى درجة ندر أن حدث ما يماثلها؟

هل هناك ما يمكن أن يرغم أميركا على قبول حضور روسيا في سوريا غير قدرتها على إمداد حليفها السوري بمستلزمات إطالة الصراع، مع ما يترتب على ذلك من تطرف وقتال وسلاح ودمار، ويصحبه من أرجحية متزايدة للطرف الأميركي؟

هذه الصورة بما تضمره من احتمالات فردناها بتفاصيلها جميعها أمام أعين محاورينا الروس. لم نطالبهم بقرارات في مجلس الأمن بل بقرار استراتيجي وكبير هو التخلي عن فئة قليلة حاكمة تتحمل مسؤولية أخذ بلادنا إلى كارثة لا قاع لها، وإقامة علاقات وشيجة مع المعارضة، وخاصة منها الديموقراطية، الحريصة على علاقات طيبة مع موسكو، تحمي استقلال سوريا الوطني، وتسهم في إعادة إعمارها وإعادة هيكلة جيشها، والإبقاء على دورها العربي والإقليمي، وتعينها على استرداد أرضها المحتلة، ودعم شعب فلسطين في نضاله من أجل حقوقه الشرعية وفي مقدمها إقامة دولة حرة وسيدة عاصمتها القدس الشريف، وتعيد سوريا إلى وطنها العربي من بوابة علاقات تاريخية لطالما كانت مميزة مع مصر، وتبني صلات متوازنة وآمنة مع جميع الدول… الخ. وقد لفتنا نظر محاورينا الروس إلى جانبين مهمين من المسألة السورية: أولهما أن روسيا وقعت في مؤتمر جنيف وثيقة تقول بمرحلة انتقالية تنقل بلادنا إلى الديموقراطية، وهذا معناه أن الحوار لا يجوز ان يكون إلا مع تلك القوى داخل النظام، التي توافق على هذه المرحلة وهدفها النهائي: الديموقراطية. لذلك، ليس معقولا أو مقبولا مطالبة المعارضة بالحوار مع من يدمرون البلد ويقتلون الشعب، للمحافظة على نظام الاستبداد والحيلولة دون قيام الديموقراطية. وثانيهما: أن وضع سوريا، وليس وضع أي مسؤول فيها، هو الأمر الذي يجب أن نرى الحل من خلاله. إذا رأينا المشكلة السورية بدلالة الرئيس، ولم نر الرئيس بدلالة المشكلة وما تتطلبه من حل، كانت مقاربتنا خاطئة وورطتنا من حيث لا نريد في مأزق قاتل يزداد عمقا ومأساوية منذ عام ونصف العام.

هل غيَّر الروس قناعاتهم بعد الحوار معنا؟ من الصعب قول ذلك، وإن كان واضحا أنهم بدأوا يشكّون في صحة مواقفهم الراهنة، علما أن الدول الكبرى لا تغير قناعاتها لمجرد أنها خاضت نقاشا مع مخالفيها في الرأي، وأن أحد عارفي السياسة الروسية قال لي بثقة: «إن موسكو لن تغير سياستها إلا قبل أيام قليلة من سقوط الأسد!». مهما يكن من أمر، لقد فهم الروس بكل وضوح أنهم يختلفون اليوم مع معارضة قالوا هم أنفسهم خلال اللقاء إنها مستقلة ووطنية وبعيدة عن المال السياسي، وانها لا تحمل السلاح وليست متطرفة أو متأسلمة.

يبقى أخيرا أننا أفهمناهم بلغة لا تحتمل اللبس أننا أتينا للدفاع عن مصالح الشعب السوري وحقوقه، ولم نأت لعقد صفقات مع أي كان أو مع النظام، وأننا نريد لروسيا أن تتصرف بروح الولاء لتاريخ العلاقات بين سوريا وبينها، التي يقوضها موقفها المنحاز الى شخص يقتل شعبه، وينقذها تحالف روسيا مع شعب سوريا، الذي خرج مطالبا بالحرية والدولة المدنية، ويضحى اليوم بحياة بناته وأبنائه في سبيلهما، ولم يخرج كي يقيم دولة دينية، ويعتبر دورها الراهن أساسيا في ما يصيب موقفه من تحول تخشى نتائجه على أمنها القومي الخاص!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى