صفحات سورية

“لا أحد يضع شروطاً على الثورة!؟”


سمير العيطة

أحد أهمّ خصائص “الربيع العربي” أنّه “تسونامي شبابيّ” انطلق من صلب المجتمع، ويحمل وعياً ضمنيّاً واعداً بـ”نهضة جديدة”. وهو ربيع لا تقوده ولا تمثّله أيّ طليعة أو حزبٍ ثوريّ. وهذه الخاصّة هي بالضبط ما يصنع قوّته وما يحتّم أنّ مساره لن ينتهي بإسقاط نظامٍ هنا أو هناك، بل سيدوم سنوات عديدة. لكنّ هذه الخاصّة تحوي أيضاً في ثناياها معوِّقات انتصار هذا الربيع ونهضته المنشودة.

“الثورة الثانية” في مصر، وإن جاءت ربّما متأخّرة بعض الشيء، خير دليلٍ على الأمر؛ ذبك حيتما بيّنت الهوّة القائمة بين المسار “الديموقراطي” عبر الانتخابات الذي وضعه المجلس العسكري مع الأحزاب السياسيّة، وبين الحسّ الشعبي أنّ في ذلك تلاعباً على “قيم الثورة” ومسارها. ومن اللافت أنّ حشود التحرير لا تثق بالأحزاب السياسيّة، بما فيها تيّارات الإسلام السياسيّ، بل بشخصيات بعينها رافقتها في مواقفها خلال نضالاتها، وقد تحجب عنها هذه الثقة إذا لم تستجب لطموحاتها.

لكن أكثر ما يبرز الهوّة بين المجتمع المنتفض ضدّ الاستبداد وبين الأحزاب والشخصيات السياسيّة هو الحالة السورية، بالضبط لأنّ هناك تداخلاً قويّاً في هذا البلد بين البعد الداخلي (انتفاضة شعب ضدّ سلطته) والبعدين الإقليميّ والخارجي (موقع سوريا بالنسبة للتنافس بين إيران ودول الخليج، والصراع الدولي على المنطقة)، ولأنّ سوريا تعرف تنوّعاً طائفيّاً ومذهبيّاً. وقد لعبت السلطة منذ انطلاقة الانتفاضة بقوّة على هذا التداخل والتنوّع لإنقاذ نفسها.

لو كانت هناك حقّاً قيادة ثوريّة للانتفاضة السوريّة لطالبت أساساً أن يتمّ فصل البعدين، وتهميش كلّ المهاترات حول الأبعاد الإقليميّة كي يحصل التغيير بسرعة. لكن بالرغم من المناشدات بهذا الخصوص، لجأ عددٌ كبيرٌ من المعارضين للعبث على وتر الصراعات الإقليميّة (خاصّة انتقاد التحالف مع حزب الله، وطلب التدخّل الخارجي). كما لعب انخراط وسائل إعلام خارجيّة دوراً جوهريّاً في إقحام التداخل بين البعدين (كما لو أنّ الدول المعنيّة هي ديموقراطية أو ليست طرفاً في لعبة إقليميّة ودوليّة)، وفي العمل على إبراز معارضين سوريين دون غيرهم، وإظهار شعارات انتقائيّة يرفعها منتفضون بعينهم. وهذا كلّه أطال في عمر الأزمة. إنّ مثل هذا التلاعب أوقع جزءاً من الانتفاضة في الفخّ الذي نصبته السلطة في سوريا، وحيّدها عن مسارها الأساسي.

ولو كانت هناك حقّاً قيادة ثوريّة للانتفاضة لطالبت أيضاً أن توضع سريعاً صورة واضحة لنظامٍ بديلٍ وبرنامجاً لمرحلة انتقالية تؤدّي إلى انتصارٍ سياسيّ عبر قلب موازين القوى الداخليّة. لكنّ القوى والشخصيات السياسية رفضت أن تتنطّح باكراً لهذه المهمّة، بحجّة أن “لا أحد يضع شروطاً على الثورة!” [1]. هذا يعني تقديم الوسيلة على الهدف، والاكتفاء بشعار “إسقاط النظام” بدل وضع الأسس لنظامٍ بديلٍ يجلب أوسع مساندة شعبيّة لإحداث التغيير. أخذ الأمر شهرين كاملين كي يتمّ خلق بنية سياسية في الخارج (المجلس الوطني السوري) في مقابل أخرى في الداخل (هيئة التنسيق الوطني)، تحاول كلاهما تأطير الحراك الشعبي، في مناخٍ يشكّك فيه جزء من المعارضة بالجزء الآخر (الهيئة متّهمة بالرغبة بالتفاوض مع السلطة والمجلس متّهم بالدفع نحو التدخّل الخارجي) [2].

ولو كان هناك حقّاً قيادة ثوريّة للانتفاضة لأوضحت باكراً مفهوم حماية المدنيين. ففي حين جهدت السلطة منذ البداية لتحويل الصراع الاجتماعي السلميّ المدنيّ عن مساره، عبر الاستخدام المفرط للعنف واستفزاز المشاعر الطائفيّة [3]، وقعت أغلبيّة المعارضة (ووسائل الإعلام التي تبرزها) في الفخّ، وتناست أنّ مسؤوليّة حماية المدنيين هي في الأساس مسؤوليّة وطنيّة داخليّة، تتطلّب حشد كافّة فئات المجتمع لمواجهة العنف والطائفيّة، قبل المطالبة بأيّ تدخّلٍ إقليميّ أو دوليّ، خاصّة إن كانت له صفة عسكريّة.

هكذا تتحمّل المعارضة السياسيّة السوريّة مسؤوليّة حقيقيّة، لكن بالتأكيد تقع المسؤولية الأساسيّة على السلطة. لقد دفعت المعارضة انتفاضة شعبها إلى الإحباط، وبالتالي إلى لجوء جزءٍ منها إلى العنف في مواجهة عنف السلطة، ومن ثمّ المطالبة بالتدخّل الأجنبيّ، بحيث يبدو هذا التدخّل قدراً محتوماً.

ومهما ستكون التطوّرات القادمة، الجوهريّ هو أن يبقى المجتمع السوري أنضج من “نخبته السياسيّة”، وأن يؤطّر محليّاً بنى تماسكه وبدائله التنظيميّة مع انهيار المؤسّسات القائمة. إذ أنّه هو الذي سيبقى دائماً بعد رحيل السلطة. وما يهمّ هو أن يبقى له نساءً ورجالات يستحقّون فعلاً ثقته.

* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك، ومؤّلف: Les Travailleurs Arabes Hors-La-Loi, L’Harmattan, 2011. ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com

 [1] في تموز/يوليو 2011، عقدت ندوة في الدوحة (قطر) بدعوة من مركز البحوث الذي يترأسه الأستاذ عزمي بشارة، ضمّ العديد من الشخصيات السياسية المعارضة البارزة في سوريا من مختلف الاتجاهات. نقلت مباشرةً على شاشات التلفزة وشهدت إقبالاً كثيفاً في سوريا. وأمام المطالبة بأن تضع هذه الشخصيات وثائق تأسيسيّة “لثورة قيم” في سوريا للانتصار للانتفاضة، جاء الردّ أنّ “الشعب يعرف طريقه”، وأن “لا أحد يضع شروطاً على الثورة”.

[2] عقدت هيئة التنسيق مؤتمرها في سوريا في 17 أيلول/سبتمبر 2011، ووضع حينها صورته لسوريا المستقبل في صيغة “عهد كرامة وحقوق”، وأنشئ المجلس الوطني في استنبول في الأول من تشرين الأوّل/أكتوبر، في حين لم يأتِ برنامجه الوطني إلاّ في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2011.

[3] بما في ذلك تسريبها هي نفسها لشرائط مصوّرة تسجّل قمعها ووحشيّته مع مضمونٍ طائفيّ أو مستفزّ للمشاعر الدينيّة.

لوموند ديبلوماتيك العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى