صفحات الثقافة

أبرز رموز الحداثة بلغة سيرفانتيس: شاعر نِيكَاراغْوا المجدد رُوبِينْ دارِيو… من الرمز إلى الواقع

 

 

مدريد ـ «القدس العربي» محمد محمد الخطابي: مع حلول الذكرى الواحدة بعد المئة لشاعر نيكاراغوا رُوبِينْ دَارِيو كانت قد أصدرت مؤخراً دار النشر الإسبانية «ألفاغوارَا» بالتعاون مع «الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية» كتاباً بعنوان: «روبين داريو من الرمز إلى الواقع» التي أدرجت فيه بعضَ أعماله الأدبية، ودواوينَه الشعرية المعروفة.

وصرحت بيلار ريجيس مديرة دار النشر (فرع كولومبيا): «بأنه ليس هناك أجمل تكريم يمكن أن يُقام لهذا الشاعر الحداثي المُجدد في ذكرى رحيله من إعادة نشر بعض أعماله التي حققت نجاحات كبيرة عند صدورها، ومن هذه الأعمال «أرض الشموس» (عن ذكرياته وسفرياته إلى إسبانيا وبلجيكا، وألمانيا، وإيطاليا والمغرب)، و»أغاني للأمل والحياة»، و»البجع وقصائد أخرى» بالإضافة إلى أعمال مختارة معروفة أخرى لهذا الشاعر الذائع الصيت. ويتضمن هذا الكتاب كذلك نصوصاً لكتاب وشعراء ونقاد ممن أعْجِبُوا بروبين دارييُو وبأعماله أمثال الشاعر المكسيكي خوسيه إميليو باشيكو، وآخرين.

عربي أم إفريقي أم هندي؟

تساءل روبين داريو ذات يوم: «هل تجري في بدني قطرة من الدم العربي أو الإفريقي أو الهندي؟ « الكاتب الإسباني الأندلسي افرَانسِيسْكُو فِييا إسْبِيسَا يقول عن ذلك: «إنه حتى إن كان قد وُلد في نيكاراغوا، إلا أنه من أصل عربي أندلسي، والده وجميع أفراد عائلته وُلدوا في قلب الأندلس في منطقة البِشْرات في أوهانيس إقليم مدينة ألمرية أو المِرَاية، كما يحكي لنا فِييا إسبيسَا، أن روبين داريو «الهندي» أو «الإفريقي» المغربي يكتب عن زيارته لأول مرة لمسجد الجامع الأعظم في قرطبة فيقول: إنه عندما هم بالدخول إلى هذه المَعلمة المعمارية الكبرى الخالدة أحس أنه في حاجة ماسة إلى استبدال حذائه ببلغتين (*) وأنه كان في تلك الهنيهة يتمتم في نفسه قائلاً الله وحده هو الأكبر».

وخلال وجود داريو في الأندلس، كان قد صرح لأصدقائه ومرافقيه في إسبانيا أنه لن يغفر ذنباً لنفسه إنْ لم يقم بزيارة أرض أجداده وجذوره، فقرر القيام بزيارة لمدينة طنجة (شمال المغرب) عام 1902، وترك لنا ذكرياته وانطباعاته عن هذه الزيارة في كتابه الذي يحمل عنوان «أرض الشموس»، فيقول عن ذلك: إنه عندما كان على ظهر مركب إنكليزي أو (عبارة) بخارية في عرض البوغاز أو مضيق جبل طارق، تراءت له مدينة طنجة من عرض البحر، فقال عنها: «وعلى حين غرة ظهرت لنا من بعيد مدينة طنجة بيضاء، بيضاء، بيضاء موشاة بمنارات خضراء». ويقول روبين داريو إنه عندما اقترب المركبُ الذي كان يقله من ميناء المدينة، ودنا من البنايات الشاهقة التي كانت تتراءى له من بعيد، كانت مفاجأته كبيرة عندما اكتشف أن تلك المنارات أو المآذن في الواقع لم تكن سوى مسجد، وكنيسه، وبيعة.

ويَحكي لنا روبين داريو في هذا الكتاب أنه خلال وجوده في المغرب تعرف على أديب وشاعر مغربي وسيم وأنيق رافقه خلال وجوده هناك، بل إنه رافقه في رحلة لزيارة مدينة تطوان « الموريسكية بامتياز». ويخبرنا في كتابه أنه ورفيقه عندما كانا في الحافلة التي أقلتهما إلى أخت مدينة غرناطة حاضرة «تطوان» أو بمعنىَ أدق «تطاوين» سمع مجموعة من المسافرين الذين كانوا جالسين بجانبهما، وكأنهم يقرأون في ورقة، فقال لصديقه المرافق: «يبدو أنهم يتلون قصائد» وكان الأمر كذلك، فقد أدرك روبين داريو بواسطة الإيقاع الموسيقي في ما بعد، أنهم بالفعل كانوا يقرأون الشعر، حتى إن لم يكن يعرف اللغة العربية، وعرف في ما بعد من صديقه أنهم كانوا ذاهبين لحضور تأبين عالِمٍ صديقٍ لهم توفي في مدينة تطوان، وكانوا يتدربون على هذه القصيدة لإلقائها خلال حفل التأبين.

غَالدُوسْ و مَاتْشَادُو

الكاتب الكناري – الإسباني بينيتُو بريث غالدُوس، في روايته الشهيرة «عَيْطة تطاوين» (التي يعالج فيها الحملة العسكرية الإسبانية الشنعاء للجنرال ليوبولدو أودونيل على تطوان عام 1860) يرد على حيرة روبين داريو بخصوص تساؤله عن أصله، وعن المزج الكبير الحاصل بين الشعبيْن الإسباني والمغاربي.. فيقول: «أحببتُ أن أخبركم بشيء، إن الإسبان والمغاربة (يَستعمل غالدوس كلمة المُورو) هم إخوة أكثر مما تتصورون، إنزعوا عنهما قليلاً من التدين، إنزعوا عنهما كذلك قليلاً من اللغة، ثم قليلاً من المظهر الخارجي، وشيئاً من الجو العائلي تقفز إلى العيون الحقيقة التالية: فما الإسباني إلا مغربي إسباني مسلم، وكم من إسباني الذي نراه إنما هو متنكر في زي أو مظهرٍ مغربي، فإذا استقدمنا إلى هنا مواطناً مغربياً، وجعلناه يتعلم اللغة الإسبانية في ظرف وجيز عندئذ يصبح إسبانياً قحاً» .

ويؤكد الشاعر الإسباني الذائع الصيت أنطونيو ماتشادو هذا الاتجاه عند روبين داريو، وبيننيتو بيريث غالدوس وعند غيرهما من المثقفين الإسبان (أنطونيو غالا، خوان غويتيسولو) وسواهما فيقول: في قصيدته الشهيرة «الدفلىَ» مؤكداً ومتباهياً ومُفتخراً بأصله ومحتده العربي:

أنا مثل هؤلاء القوم / الذين إلى أرضي قَدِمُوا، أنا من أرومة محتد/ المغاربة الأقحاح، أصدقاء الشمس/ منذ أقدم العهود، الذين ظفروا بكل شيء/والذين خسروا كلَ شيء، لي روحٌ من سُنبل الطيب/روحُ العربي الإسباني .

دارييو ومغامرة كولومبوس

في الثاني من شهر يناير/كانون الثاني 1492 تم تسليم آخر معاقل الإسلام في الأندلس مدينة غرناطة من طرف آخر ملوك بني الأحمر أبي عبد الله الصغير إلى الملكيْن الكاثوليكييْن فرناندو وإيزابيل، وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول من السنة نفسها وصل البحار المُستكشف المغامر كريستوفر كولومبوس إلى القارة الأمريكية التي أُطلِق عليها في ما بعد بالعالَم الجديد، القصيدة التالية للشاعر رُوبِينْ دَارِييُو حول هذا الحدث التاريخي الذي أضاف قارة جديدة إلى خريطة العالم إبانئذٍ، والذي خلف ردودَ فعلٍ متباينةٍ ما زالت تُسمع أصداؤها إلى اليوم، يقول فيها:

أميرَ البحر الشقي ٭٭

أمريكا المسكينة /هنديتك العذراء، الحسناء ذات الدم الحار، جوهرة أحلامك/أصابها الهوس، إنها ترتعش في عصبية/ جبينها شاحب، روحٌ وخيمةٌ تقطن ثراها، حيث القبيلة المُوحدة/ أشهرت هراواتها، اليوم تثار الفتنة بين الإخوة / والحرب فيها أزلية، إنهم مكلومون، يشتتون أجناسَهم بأنفسهم /الوثنُ الحجري، حل محله اليوم، صنمٌ من لحم متوج/ ومع ذلك ما زال فجرها الأبيض، ينبلجُ كل يوم، وفي الحقول/ يتآخى الدمُ بالرماد، أجدادنا كانوا ذوي نخوةٍ وكبرياء/كانوا مُخلصين أوفياء، رؤوسُهم مزركشة بنوادر الريش /ليت الرجال البيض كانوا يضاهون أَتَوَالبَا ومُوكتيزُومَا** */ عندما استقرت في بطن أمريكا، بذور الجنس الحديدي/ المُنحدر من إسبانيا مزجت قشتالة العُظمى / قوتها البطولية بقوة الهندي المُنحدر من أعالى الجبال/ رباه، ليتَ شعري لم تنعكس قط، أشرعةُ مراكبك البيضاء/على المياه التى كانت من قبل، دائماً بلوريةً صافية / وليتَ النجوم لم ترَ، وهي مذهولة في السماء/ مَرَاكبَك على السواحل ترسُو، بوصُولك نَشر الحظ العاثرُ في طريقنا / صراعاتٍ وهلعَا، وحروباً وفزعَا، وَحُمى دائمة /أميرَ البحر المسكين، كريستوفر كولومبوس أدعُ اللهَ /ليقيَ العالمَ الذي اكتشفته .

تحيته لشاعر إسبانيا ماتشادو

ويوجه داريو في القصيدة التالية تحية حرى إلى صديقه شاعر إسبانيا والأندلس أنطونيو ماتشادو فيقول:

غامض وصامت/يمضي مرةً وأخرى، كان ذا نظرةٍ عميقةٍ موغلة/تكاد لا تُرى بالكاد، تتخلل حديثه لغة/فيها حياءٌ وشموخ، كانت أضواءُ فكره/تبدو دائماً مُشعة، كان مُشرقاً وعَميقاً/وكان ذا إيمانٍ صادق، كان راعياً لألفِ أسدٍ/وألف خروفٍ كذلك، كان يُحرك زوابعَ وأعاصير/ويأتيك بِقِدْرٍ من عسل،وبروائع الحياة/والمحبة والمتعة، كان يشدو أبياتاً بليغة/أسرارها تخصه وحده، راكباً ذهب يوماً إلى المستحيل/ إليكَ أتوسل من أجل أنطونيو، يا إلهي بأن تشمله دوماً برعايتك/آمين .

حياته وأعماله

وُلد روبين داريو في 18 يناير/كانون الثاني 1867 في مدينة بيدرو دي ميتابا التي أصبحت اليوم تحمل اسمَه وهي مدينة «داريو» في نيكاراغوا، وفي سن 14 سنة انتقل للعيش في العاصمة «ماناغوا» حيث عمل – مثل خورخي لويس بورخيس- سكرتيراً في المكتبة الوطنية، ومنذ تلك السن المبكرة ألحق به لقب «الشاعر الطفل»، وفي سن 19 سنة سافر إلى سانتياغو دي تشيلي حيث نشر باكورة أعماله الشعرية وهو ديوانه الشهير «الأزرق» (قصائد وقصص) عام 1888 الذي لفت انتباه الشعراء والنقاد والقراء على حد سواء، والذي قال عنه صاحب «البؤساء» الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو: «الفن الحقيقي هو الأزرق». ثم انتقل داريو للعيش في الأرجنتين. وفي عام 1892 سافر إلى إسبانيا ممثلاً للحكومة النيكاراغوية للاحتفال بالذكرى المئوية الرابعة لاكتشاف أمريكا، وبعد عشر سنوات عاد إلى إسبانيا وباريس. وفي عام 1907 أصبح ممثلاً دبلوماسياً لبلاده في مدريد بعد أن أصبح شاعراً مشهوراً في كل من أوروبا وأمريكا.

قصائده الأولى هي مزيج بين التقليد والرومانسية، ثم سرعان ما أصبح يعرف بالشاعرالحداثي المجدد الذي حقق طفرة أو قفزة كبرى جديدة في الشعرالإسباني الأمريكي اللاتيني المعاصر على وجه الخصوص، متجاوِزاً القوالب الأسلوبية الجمالية التقليدية، والأنماط التعبيرية البيانية المتوارثة التي كانت سائدة في إسبانيا، وذلك بعد مراجعة عامة لديوانه «الأزرق» الذي قسمه إلى أربعة أقسام وهي: «الربيعي»، «الصيفي»، «الخريفي» و«الشتائي»، وقد اعترف له بذلك شعراء كبار معاصرون له أمثال رامون فاييي إنكلان، وأنطونيو ماتشادو، ليوبولدو لوغونيس وغيرهم. من أعماله في هذه المرحلة «غنائيات الأمل والحياة»، «والغناء الهائم» وهو من أشهر أعماله الشعرية على الصعيد العالمي. له كذلك «غناء للأرجنتين وقصائد أخرى» (1914). و«إيقاعات» 1887، و«الحمائم البيض» 1988، و«قصائد ملحمية لأمجاد شيلي»، و«قصيدة الخريف وقصائد أخرى»عام 1910، ومن أعماله النثرية: «النوادر» 1906. و«اسبانيا المعاصرة» 1901. و«القوافل» 1902. و«أرض الشموس» 1904 الذي يتعرض فيه لزيارته لمدينة طنجة، و«آراء « 1906. و«آداب» 1911. و»حياة روبين داريو بقلمه» 1913. و«جزيرة الذهب» (وهي رواية لم تكتمل) وفي عام 1915 عاد روبين داريو إلى بلده نيكاراغوا مريضاً حيث توفي فيها عام 1916.

*البَلْغَة حذاء أو نعال تقليدي متوارث في المغرب مصنوع من جلود البقر والماعز بعد دبغه، وهو يُسمى عند الرجال بالبلغة، وعند النساء الشربيل. قال الشاعر عن البلغة : لتبليغها المضطر سُميتْ ببلغةٍ/ وإنْ قستَ بالتشبيه سميتَها نعلاَ.

٭٭ ALMIRANTE هي من العربية «أمير البحر» وهو لقب كولومبوس لخبرته وطول باعه في الملاحة والإبحار.

٭٭٭٭ أتوالبَا ومُوكتيزوما من أباطرة الإنكا والأزتيك / ترجمة الشعر لكاتب المقال.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى