محمد تركي الربيعومراجعات كتب

أزمة الطبقة الوسطى في الشرق العربي/ محمد تركي الربيعو

 

 

مع انتشار العلوم الأوروبية داخل المشرق العربي في القرن التاسع عشر، أخذنا نشهد حالة إعادة اختراع لمهن باتت شرعيتها تستند إلى استيراد العلوم الأوروبية، حيث غدت الإصلاحات القضائية والمؤسساتية، وكذلك الاختراعات الفنية، أساس تطوير صلة حديثة بين المهن الجديدة والمعرفة، في مجال القانون والتعليم، وكذلك أساس تطوير نمط جديد من رجالات الثقافة والصحافيين والكتاب والمثقفين.

وقد أخذت هذه المهن الجديدة تبرز عددا من قادة الحركات السياسية والقومية. في البداية ظهر المحامون وبأعداد كبيرة، وأتى الأطباء بعد ذلك. وبعيد الاستقلال ظهر المهندسون في المشهد الوطني رمزا للعصرنة بامتياز. كما نظر لأبناء هذه المهن الجديدة بوصفهم جزءا من تلك «الطبقات الوسطى الجديدة» الموصوفة بأنها عصرية وحاملة للتغيير وقادرة على إخراج بلادها من «التخلف» الذي عانت منه في الماضي. لكن مع الثمانينيات، سرعان مع بدت بعض هذه المهن (المهندسون) حوامل لمشروع إعادة إحياء الإسلام، كما تحولت منظماتهم المهنية والنقابية إلى مواقع فاعلة لمواجهة السلطة.

ولعل هذه العلاقة بين الدولة الحديثة وبين الفاعلين والمهن الجديدة التي ظهرت مع القرن العشرين، هي ما تشكل بنية كتاب «أزمة الطبقة الوسطى في المشرق العربي: المهن العليا ودورها في التغيير الاجتماعي» ترجمة رندة بعث، للسوسيولوجية الفرنسية اليزابيث لونغنيس، الذي سعت من خلاله إلى تقديم قراءة سوسيولوجية لتاريخ المهن (الأطباء والمهندسون، الحقوقيون والخبراء المحاسبون) في أربعة بلدان من المشرق العربي (سوريا ومصر ولبنان والأردن)، من خلال التركيز على حدثين اجتماعيين كبيرين، الأول يتعلق بالإصلاحات التي شهدتها المنطقة مع بدايات القرن التاسع عشر، وما فرضته من تقنيات جديدة تماما، سواء على مستوى النظام التعليمي، أو على مستوى مخرجات هذا النظام (النخب الجديدة) وعلاقتها بالمجتمع. أما الحدث الثاني، فيرتبط بأزمة مشروع التنمية في الثمانينيات من القرن العشرين، وولادة ظاهرة المهنيين الحضريين الشباب، التي رصدتها الأنثربولوجية الهولندية أنوك دي كوننغ في كتابها «أحلام عولمية في القاهرة الكوزموبوليتانية»، الذين (كما تقول الكاتبة) لم يعودوا يعتمدون في نجاحاتهم ومكانتهم الاجتماعية والمهنية (كما في السابق)، على الدخول إلى تلك المؤسسات التعليمية الحديثة، بل باتوا يتميزون عن غيرهم من أبناء المهنة نفسها، من خلال اكتسابهم لما دعته كوننغ بـ»رأس المال الكوزموبوليتاني»: التآلف مع المعايير القياسية والمخزونات المسيطرة كونيا للعالم الاول ـ إتقان الإنكليزبة على سبيل المثال ـ وكذلك القدرة على المشاركة في أساليب حياة كوزموبوليتانية صارخة، وهي الأساليب التي أصبحت امتيازا حصريا للطبقة المتوسطة العليا والنخب المهنية في القاهرة مثلا. فالنظام التعليمي الذي كان يحقق الحراك الاجتماعي وضمان المستقبل، وبطاقة الخروج من محدودية الفرص المرتبطة بمكانة الأسرة وبمسارات الحياة، أصبح يعمل الآن على تعزيز هذه المصائر الأسرية، حيث بات الالتحاق بمدارس لغات في المرحلة ما قبل الجامعية، أو الالتحاق بكليات تدرس اللغات الأجنبية، عاملا حاسما في تقرير الفرص في سوق العمل، كما أصبح علامة مهمة على التمايز داخل الوسط المهني ذاته (خريج جامعة أمريكية/مقابل طالب خريج جامعة حكومية), وعلى المستوى الاجتماعي.

معارف حديثة ومهن جديدة:

ترى لونغنيس، أنه في ظل إصلاحات محمد علي (1805-1848) والتنظيمات العثمانية (1839م)، شهد القرن التاسع عشر في المشرق العربي تقنيات جديدة على مستوى المؤسسات التعليمية. فقد برز نمط جديد من المدارس، يقترح تعليما معلمنا، لا يخضع لسيطرة رجال الدين، أبوابه مفتوحة أمام جميع الرعايا العثمانيين، من دون تمييز قائم على الجنس أو على الدين. ومن بعد مدارس الهندسة العسكرية ثم المدارس الطبية الأولى، تأسست مدارس الإدارة والقانون والألسن. وأتت بعد ذلك سلسلة من المدارس الابتدائية والثانوية الحكومية. وفي الوقت عينه، كثرت مدارس الطوائف والإرساليات التي اقترحت إلى جانب التعليم الديني تعليما دنيويا وتقديما لمناهج حديثة (رياضيات، تاريخ، جغرافيا، أدب، فلسفة) فساهمت في نشوء علاقة جديدة بالمعرفة ونمط جديد من الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين. كما تأسست حينها أول كلية مدنية للطب في بيروت على يد بعثة أمريكية في عام 1867، في المعهد السوري البروتستانتي (الذي سيصبح لاحقا الجامعة الأمريكية في بيروت). ثم تأسست كلية الطب في جامعة القديس يوسف عام 1883.

وقد أدت هذه التحولات بحسب لونغنيس إلى ظهور مهن جديدة، بداية في إطار خدمة الدولة، وبعيد ذلك بممارسة خاصة. ومن بين اهم هذه المهن التي ظهرت، كانت مهنة المعلم والصحافي والمحامي والمهندس والطبيب. ولئن كانت هذه المهن الخمس تشترك في أنها ضمن الشكل الجديد الذي برز من سياسات العصرنة والإصلاحات في القرن التاسع عشر، نتيجة قطيعة ثلاثية، معرفية وثقافية واجتماعية، فإنها لم تقم علاقة متماثلة بالمعرفة ولم تستند بالدرجة عينها إلى حقل معرفة خاصة، كما أنها لم تقم علاقة متماثلة بالمجتمع .

كان دور المدرسين أساسيا في تأهيل الأجيال الجديدة وفي نشر الأفكار الجديدة، أو على العكس من ذلك: في نشر أيديولوجيا السلطة القائمة، وكانت مكانتهم حاسمة في الحركة الوطنية في القرن العشرين. من جهة أخرى، فقد نُظِر لولادة مهنة المحامي باعتبارها «العلامة الأبرز للوصول إلى الحداثة القضائية»، حيث تولدت ممارسات جديدة للقانون من خلال تصور معلمن للدفاع. وغدت الحقوق الدرب المفضل للوصول إلى الوظائف الإدارية. كما أصبحت مهنة المحاماة معبرا إلزاميا لمسيرة مهنية سياسية. وكثيرون هم المحامون الذين انضموا إلى الأحزاب الوطنية وكانوا في قيادات النقابات العمالية، حيث عملوا مستشارين لها.

تغيرت الأمور تدريجيا بدءا من الخمسينيات، لاسيما في الستينيات. وقد تحولت النظرة ـ بحسب لونغنيس- لمكانة الحقوق في المجتمع وأصبحت السلطة ترتاب بالمحامين. كما أخذت مهن أخرى تتجاوزهم، من حيث المهمة الموكلة إليهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن حيث ازدياد عددهم على حد سواء. وأصبح أبرز الطلاب ينصرفون إلى مهنتي الطب والهندسة. وخلافا للمحامين، عرّف المهندسون والأطباء أنفسهم بحيازة معرفة تخصصية تحيل نفسها إلى أحدث تطورات العلوم الحديثة ذات النزعة العالية. حداثة قابلة لأن تنسب نفسها لتقليد علمي مهيب، على الرغم من أنها مستوردة من الغرب. غير أن هاتين المهنتين شهدتا في القرن التاسع عشر إعادة تأسيس حقيقية. ذلك أن جهود إعادة تنظيم الجيش والدولة واللجوء إلى علماء أوروبيين للتدريس في المدارس الجديدة في أسطنبول والقاهرة قد أدت، وفقا للباحثة، إلى جعل تلك المهنة تشهد تحولات كبيرة. فبين ضباط الهندسة في جيوش السلطان في مطلع القرن التاسع عشر والمهندس العثماني في القرن السادس عشر، أو بين المهندس الذي درس في مدرسة القاهرة للعلوم وبناء أقنية العصر الوسيط، تحول الموقع بقدر ما تحولت المعارف. ولكن بقدر أكبر من المهندسين، شهد الأطباء في القرن التاسع عشر قطيعة كبرى، مع بروز العلوم الغربية، دفعت إلى غياهب النسيان علما عربيا بقى ثابتا منذ قرون. ففي إطار عصرنة الجيش، تأسست مدارس للطب العسكري بمساعدة أطباء أوروبيين. في القاهرة، أدار طبيب فرنسي اسمه كلوت بك مدرسة الطب الجديدة المسماة القصر العيني، التي تأسست عام 1927. وقد ساهم تطور تنقل البشر بفضل وسائل النقل الجديدة بحرا وبرا في انتشار الأوبئة، وهو ما ولد انشغالات بالصحة العامة.

في المقابل، نادرا ما استثار المحتوى المعرفي الذي يؤسس للممارسة المهنية التي يقوم بها المهندسون والأطباء احتجاجا. فمقتضى البناء والمعالجة لم يكن بوسعه إلا أن يلاقي قبولا لدى مواطنيهم، حتى حين كانوا يعملون لخدمة سلطة الانتداب أو الاحتلال. لكن مع ذلك بقي هناك بحسب لونغنيس، فارق جوهري بين المهندسين والأطباء. فالأطباء يعالجون الأجساد ويلامسون الأرواح، وهم يواجهون التمثلات الشعبية ويقيسون أفضل من غيرهم العقبات التي تمثلها «التقاليد» أمام التقدم الاجتماعي. فمن وجهة النظر هذه، كانت تجربتهم فاعلة أكثر من تجربة المحامين أو المهندسين، حيث وجدنا عددا من الأطباء في الأحزاب القومية في العشرينيات، في حين كان المهندسون المنضوون تحت لوائها نادرين. كما كانت علاقة المهندسين بالسلطة علاقة تكنوقراط، يقتصدون في الخطابات الأيديولوجية، ولم يظهروا في مقدمة المشهد إلا في ظل سلطات تستند إلى الجيش ومصممة على منع أي شكل من السجال والمناوأة وعلى تأكيد حيوية وشمولية قيم التقدم التقني.

ولتوضيح هذا البعد في رؤية كل من الطبيب والمهندس للعلاقة بين السياسي والاجتماعي والمهني، تلجأ لونغنيس إلى مقاربة شبيهة بالمقاربة التي قدمها حنا بطاطو في كتابه «فلاحو سوريا» حول الأطوار والأنساق التي شهدها البعث على مستوى القيادات. ففي خمسينيات القرن العشرين، تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي (1953)، وقد حشد الطبقات الوسطى الجديدة التي تعلمت في المدن، واستقطب عددا كبيرا من المعلمين والطلاب والأطباء. وقد تميز العقد الأول من النظام البعثي بمشاركة قوية للأطباء في السلطة، الذين أخذوا يمارسون دورهم من خلال موقع متوسط، بين سكان تتيح لهم ممارستهم لمهنتهم أن يكونوا موضع استماع منهم وبين سلطة يحتلون فيها موقع الخبراء.

وبعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة، بدأنا نلحظ زيادة في عدد المهندسين داخل هيئات السلطة التنفيذية على المستويات جميعا، من البلديات والمناطق إلى الحكومة المركزية. كما أخذت سلطة المهندسين تبدو وكأنها سلطة على الأشياء أكثر منها على البشر وتقع في مجال التنظيم والبيروقراطية التقنية. ومنذ عام 1971، كان رئيس الوزراء من دون انقطاع مهندسا مدنيا أو معماريا. وقد جرى كل شيء وكأنه انتقال «نخب» الحكم من الأطباء الذين كانوا لا يزالون يعدون من الوجهاء إلى المهندسين، وهم تكنوقراط، أصبحت تنتظر منهم كفاءات اكثر تقنية منها اجتماعية.

الفرز الجديد والنخبوية الجديدة:

ورغم هذه المكانة الجديدة التي أخذ يحتلها المهندس، فإن طبيعة الدولة وفشل مشروعها التنموي، أخذ يدفع لأن تحل صورة المهندس «البيروقراطي» وهو شكل أدنى للمهندس العامل في الدولة، مكان المهندس الحر. ومع منتصف الثمانينيات، توضح طيف البطالة وبدأ يمس المهندسين، على الرغم من ضمانة التشغيل رسميا في بعض الدولة العربية المشرقية (سوريا). وبذلك، لم يعد لقب المهندس كافيا، بعد أن كان مصدرا للمكانة الرفيعة. الأمر الذي دفعهم، وفقا للونغنيس إلى أن يغدوا رأس الحربة في الاحتجاج الإسلامي، في ظل اختزال دورهم من «نخب» تحمل المشروع الوطني، إلى مجرد «طبقات وسطى» متأزمة، خاضعة لعملية انحدار منزلة مؤلمة. وبدلا من المهندسين، ظهرت مهنة المحاسبين وخبراء التقنيات، بوصفها رمزا جديدا للمشروع الدولتي في ظل سياسات الانفتاح على الأسواق العالمية، حيث أصبح الجمع بين رأس المال الاجتماعي والعائلي والسياسي، إضافة إلى رأس المال الدراسي والمهني الرفيع الذي تصادق عليه الشهادات والخبرة المهنية المكتسبة في الخارج، أفضل ضمان للنجاح في الأعمال. وهنا، ترى لونغنيس، أن السبب الأساسي في هذا التحول من مهنة الهندسة إلى مهنة المحاسبة، يعود إلى ربط مهنة الهندسة بالدولة ومهنة المحاسبة بالسوق. ذلك أن ما ميز حقبة منتصف التسعينيات هو تراجع مؤسسات الدولة، وهو ما أخذ يضعف المهندسين (الذين ولدوا تاريخيا في القرن العشرين ضمن مؤسسات الدولة)، ومن ثم عودة السوق إلى الصعود، وهذا ما يدفع خبراء المحاسبة قدما ويفرض عليهم في الوقت عينه تبدلا جذريا واسعا. كما أن الفارق أخذ يزداد بين نخبة مهنية جديدة تجمع بين رأس المال الاجتماعي والامتياز الدراسي، وتتحول بنجاح لتتواءم مع النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وبين كم من المهندسين الذين يعانون من سوء التأهيل وقلة التوظيف وسوء التصنيف وسوء الأجور.

٭ باحث سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى