صفحات العالم

أستانة مؤتمر اللا أحد/ سامح المحاريق

 

 

كانت يالطا مجرد منتجع صغير في شبه جزيرة القرم، قبل أن تتحول إلى أحد العناوين الرئيسية لمسارات العالم في القرن العشرين، فالمدينة الصغيرة أو القرية الكبيرة كانت محلاً لاختيار الروس، من أجل عقد مؤتمر يجمعهم بالأمريكيين والبريطانيين لترتيب الأوراق في قارة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي هذه المدينة كان ستالين وروزفلت وتشرشل يرسمون شكل العالم لعقود مقبلة يمكن أنها استمرت من المؤتمر الصغير 1945 ولغاية سقوط جدار برلين 1989، وما زالت بالطبع بصمات يالطا متواجدة ولو بصورة خافتة في عالم اليوم.

بعض المدن والجزر وحتى الضواحي حصلت على سمعتها من مؤتمرات واتفاقيات وأحداث تصادف أن يضعها التاريخ على أرضيتها، فمن كان يتصور أن سيفر الضاحية الباريسية الصغيرة سترتبط إلى اليوم بمصائر شعوب المنطقة، ومن كان ليسمع بجزيرة سانت هيلانة، لو لم تكن منفى نابليون ومحل وفاته، ولكن هذه السنة التاريخية يبدو أنها لن تنطبق على مدينة استانة الكازاخية؟، التي تستضيف محادثات ماراثونية بين الأطراف الفاعلة في المشهد السوري، بعد أن استضافت مؤتمراً وضع ممثلي النظام والمعارضة وجهاً لوجه في ظل ظروف عالمية غير مواتية كانت تتمثل في تغيب الأمريكيين المراوغ، الذي يعطيهم كل المساحة للتحرك، سواء مع تيار المفاوضات أو ضدها بصورة جذرية.

أستانة مدينة ظهرت على مسرح العالم حديثاً نسبياً، فبعد أن بقيت لعقود طويلة مجرد قاعدة عسكرية روسية وسوفييتية بعد ذلك، أصبحت أكمولا (أستانة بمعنى العاصمة، وهو الاسم الذي كان يلازم اسطنبول في مرحلة الامبراطوية العثمانية) عاصمة حديثة لبلد كبير في منطقة آسيا الوسطى، ومع ظهورها على الخريطة العالمية بحلتها الجديدة، لم تتمكن المدينة من الوصول إلى لفت انتباه العالم كما يحدث هذه الأيام، وإن بدت المدينة تفتقر لحنكة عواصم أخرى في لعبة السياسة.

لنتفهم سبب اختيار أستانة دون غيرها لاستضافة آخر التفاعلات السياسية والدبلوماسية، يجب العودة إلى النموذج السويسري في أوروبا، فكثير من الاتفاقيات عقدت في مدن مثل جنيف ولوزان، لأن ذلك كان يعطي الدول المؤثرة والمحورية في الجوار فرصة التنصل من الالتزام الأدبي بخصوص أي اتفاقيات أو محادثات تجري في هذه المدن الحيادية بطبيعتها، مدن ترحب بالضيوف ولا تثقل عليهم بالأسئلة، وتعطيهم من طابعها المتسامح والمنفتح، من دون أن تستهلك سمعتهم أو تختبر نواياهم، فأن تكون المحادثات في جنيف أمرا يختلف تماماً عن كونها في باريس أو برلين، لأن عامل الرعاية والتبني يكون مفقوداً، والحضور في هذه الحالة يبحثون عن أرض محايدة تجعلهم في وضع يوحي بالندية والمساواة، من دون أن يكون ذلك بالضرورة هو الأمر الواقع في أروقة المؤتمر أو النقاش أو العمل السياسي.

بعد أن استنفدت القيمة الرمزية لمدينة جنيف، وتراجعت ترسانة الحلول والمبادرات الأوروبية، كانت روسيا تبحث عن فضاء جديد يمكنه أن يوفر الشروط الموضوعية نفسها، فكان الاختيار على استانة عاصمة كازاخستان، التي تمتلك علاقات تاريخية وسياسية وتماساً جغرافياً مع ثلاث دول، بدا واضحاً أنها استطاعت أن تستحوذ على المبادرة وعلى الثقل الميداني في سوريا، فمن ناحية كانت كازاخستان أحد الجمهوريات السوفييتية، وما زالت إحدى مفردات الفناء الخلفي لموسكو في آسيا الوسطى، ومن ناحية أخرى تقف على مسافة متساوية من الايرانيين والأتراك بالطبع، مع علاقات متميزة ووثيقة، سواء لأسباب عرقية أو تاريخية أو ثقافية مع المصالح التجارية القائمة، وبذلك فهي أرض للجميع بالدرجة نفسها التي تعتبر أرضاً للاأحد، إذا ما كان الجميع في حالة الشأن السوري يعنون روسيا وتركيا وايران.

مشكلة استانة ومحادثاتها أن المدينة لا تحضر بوصفها مسرحاً سياسياً، ولكن مجرد ملتقى دبلوماسي بسقف طموحات منخفض للغاية، وأن كلاً من المعارضة والنظام لا ينظران إلى استانة بوصفها المكان المناسب للتسوية، لأن الوصول إلى تسوية فعلية يجب أن يجري على أرض أكثر قبولاً وانفتاحاً من هذه الحديقة الآسيوية الصغيرة، فكل ما يحدث في كازاخستان هو تكتيكي لأنه يقدم كفة واحدة من ميزان القوى في العالم، ويتناسى أن الأمريكيين الذين وجدوا ورقة مجانية في التزامن، غير العفوي وغير البريء، بين المؤتمر الأول في المدينة وتسليم السلطة في الولايات المتحدة، يمثلون الكفة الثانية التي ما زالت تتسوق في المنطقة كلها وستحدد سلة مشترياتها، أو مبيعاتها، موقفها من الشأن السوري بصورة أكثر وضوحاً، ولا يبدو أن الأمريكيين متعجلين في هذه المسألة، كما أنهم يعرفون أن الأطراف التي تتبادل الصداقة الشائكة والعداوة الأنيقة في أستانة ينتظرون النقلات الأمريكية المقبلة.

يمكن فقط أن تتحول مقررات أستانة ونواياه الحسنة إلى قرارات وإجراءات تؤثر في مصائر الحالة السورية إذا ما كانت الدول الأخرى الفاعلة (الولايات المتحدة والأوروبيون ودول عربية) ترى أن قيمة الصراع السوري اليوم تتراجع أمام محطات أخرى من زخم التنافس العالمي والإقليمي، ومع أن لقاء ملك الأردن عبد الله الثاني مع الرئيس الأمريكي ترامب يعتبر تواصلاً مبكراً مع الإدارة الأمريكية، لاسيما عندما أتبعته غارة جوية واسعة على مواقع تنظيم «داعش» في الجنوب السوري، إلا أن ذلك لا يضمن زخماً أمريكياً تجاه المنطقة، من شأنه أن يسرع بالحلول المطروحة للإشكاليات العالقة سياسياً وميدانياً، كما أنه لا يمكن تجاهل المشاغل الأخرى المحلية في الولايات المتحدة نفسها، والبداية الصدامية التي شهدتها ولاية الرئيس ترامب مع الأجهزة القضائية، ومجموعة أخرى من مكونات المؤسسة السياسية الأمريكية.

بالعودة إلى استانة فإن الاجتماعات التي تشهدها المدينة ليست سوى مكان مجازي لمجموعة أخرى من المفاوضات والصفقات التي تجري في كثير من عواصم المنطقة، وجميع من ذهبوا إلى المدينة لا يمكن أن يوصفوا بأصحاب القرار على مستوى دولهم، كما أن دولاً قليلة في عالم اليوم، خاصة في المنطقة العربية، يمكن وصفها بصاحبة قرار واحد ومتجانس ومبدئي، فالظروف المتسارعة جعلت من مبدئية القرار السياسي عملية خاضعة للتغيير والتحول، كما أن شكل السلطة في المنطقة العربية تحديداً، وخلال السنوات الأخيرة أعاد تفعيل توزع القوى في القرار السياسي، وهو سبب هامشي يفسر التغيب العربي عن رعاية وضمانات المحادثات في استانة، بالإضافة بالطبع إلى ضآلة الوزن النسبي للدول العربية في الشأن السوري، الذي تحول إلى قضية إقليمية وعالمية واسعة ولافتة، كما أن علاقة الوكالة والتبعية التي اعتادتها الدول العربية، خاصة من فترة حرب الخليج الثانية 1990 تجعلها معتادة على انتظار ما يتقرر بعيداً، ويحتم عليها أن تتفاعل مع النتائج من دون أن تتدخل في صناعتها.

كاتب أردني

لبقدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى