صبحي حديديصفحات الثقافة

أصدقاء محمود درويش في براغ/ صبحي حديدي

 

 

يوم أمس، 13 آذار (مارس)، بلغ محمود درويش (1941 – 2008) سنّ الخامسة والسبعين؛ وكان لافتاً، ومبهجاً تماماً، أن يكون في طليعة المبادرين إلى الاحتفاء بهذه المناسبة نفر من المواطنين التشيك والعرب، الفلسطينيين خاصة، أنشأوا مجموعة باسم «أصدقاء شعر محمود درويش»، وأقاموا فعالية رفيعة المستوى، غنية المحتوى، بليغة الأثر. وقد تضمن البرنامج، الذي احتضنته مكتبة فاتسلاف هافل في قلب براغ، قراءات شعرية بالتشيكية والعربية والإنكليزية والفرنسية والهولندية (تناوب عليها كارل دوبري، سارة أرنشتين، يجي شيميك، دانييل براون، هيلين جينيه، برهان قلق، هربرت فان لندين)؛ كما تضمن أداءً درامياً للقصائد، من الممثلة والمغنية الأوبرالية مونيكا ناشيفا؛ وعزفاً على العود والناي، من السوري مروان السليمان؛ ومساهمات نقدية من فرانتشيك أوندراش، من معهد الشرق الأوسط وأفريقيا في جامعة شارلز؛ وتقديم من الصبية الفلسطينية لوتيسيه شومري، وكلمة ترحيب استهلالية من سفير فلسطين في براغ، خالد الأطرش. أما روح المبادرة، والقسط الأعظم من أعمال التفكير والتخطيط والتدبير، فقد تولاها الكاتب والدبلوماسي الفلسطيني المخضرم برهان قلق، والكاتبة والناشطة الحقوقية التشيكية بيترا شتاسنا.

وإذْ أحرص على تسمية المشاركين على هذا النحو المفصّل، وأرجو ألا أكون قد أغفلت أحداً منهم، فذلك لأنّ الفعالية كانت مميزة حقاً، تلتفت إلى ذكرى مميزة، وتليق بقامة فلسطينية وعربية وكونية عالية مثل درويش؛ في بلد ـ يتوجب القول، بدون تأتأة ـ لا تسهل فيـــه استعادة فلسطين والفلسطينيين، حتى على مستوى ثقافي وفنّي محض، وشاعر كبير احتضنته الإنسانية جمعاء. ولهذا فقد كان تفصيلاً يثلج الصدر أن تكون غالبية الحضور في القاعة من التشيك، وبعض الجنسيات الأخرى غير العربية؛ خاصة، هنا أيضاً، أن هذا المكان تحديداً، مكتبة هافل، يكتسب مغزى مميزاً بدوره، نابعاً من امتزاج الأدب بالسياسة، ليس دون مقدار من الحساسية الدبلوماسية التي يستولدها نفوذ مجموعات الضغط الصهيونية، إزاء شخصية درويش الشاعر نفسه، التي لم تكن البتة متجردة من السياسة.

وكما فاجأتني، قبل سنتين، مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، في الاحتفاء بدرويش، فقبلت دعوتهم الكريمة بحماس وسعادة وإكبار، وشاركت بورقة نقدية حول الكونية في شعر الراحل؛ كذلك كانت حالي حين وجه لي الأصدقاء دعوة كريمة للمشاركة في فعالية براغ؛ للتعريف نقدياً بالشاعر، خلال فعالية المكتبة المشار إليها؛ ثمّ إلقاء محاضرة في جامعة شارلز، تمنوا أن تتناول العلاقة بين درويش وإدوارد سعيد؛ باللغة الإنكليزية في المشاركتين. وإذْ أسجّل تفاعل جمهور المكتبة مع محاولتي تقديم «تخطيط» وجيز، ومتعمق ما أمكن وما أتاح المقام، حول جماليات المنفى في شعر درويش؛ فإنّ استقبال طلاب الدراسات العليا في الجامعة لموضوعة الإشكالات الطباقية بين سعيد ودرويش، تكشّف عن نقاش عميق، تجاوز بكثير حدود الاستزادة المعرفية والأكاديمية، أو فضول الثقافة العامة. وهكذا، سُئلت عن الشعر العربي المعاصر عموماً، ومشاقّ توصيف «الآخر» عند كلّ من درويش وسعيد، والاتفاق أو الاختلاف بينهما حول مسائل كثيرة غير تلك التي أثارها درويش ـ في قصيدته «طباق»، مرثية سعيد، تحديداً ـ حول الهوية والفنّ والنوستالجيا، والتي تناولتُها في محاضرتي.

ومن المعروف أن صداقة سعيد/ درويش تعود إلى لقائهما الأول في نيويورك، سنة 1974؛ وأنها انطوت على قسط أعظم من الاتفاق، حول الأدب والثقافة وفلسطين؛ وكذلك حول السياسة (التي اعتبر سعيد أن درويش مارسها كارهاً، أو من باب تحمّل مسؤولية موقعه كـ»شاعر فلسطين الوطني»)، وتحديداً بعد اتفاقيات أوسلو. أقلّ شيوعاً، ربما، أنهما اختلفا حول مسائل مثل الهوية والمنفى والآخر، ليس بالمعنى الكوني العريض لهذه المفاهيم، بل في السياقات الفلسطينية جوهرياً. ثمة تلميحات، بعضها تصريحات، إلى هذا التوازي الجدلي في مقالة سعيد «حول محمود درويش»، 1994، وهي أطول ما كتب عن صديقه؛ وفيها يشدد على الجانب السياسي والوطني والهوياتي، بل «القومي» أحياناً، في شخصية درويش الشعرية. وأمّا الشاعر فإنّ قصيدته المعروفة، «طباق» فتُجري حواراً بالغ الحيوية مع صاحبه الناقد/ المفكر، لا تخفى فيه خطوط التقائهما وافتراقهما. (لعل المثال الأوضح هو سؤال درويش وإجابة سعيد، حول الماضي: «والحنين إلى أمس؟/ عاطفة لا تخصّ المفكر إلا/ ليفهم توق الغريب إلى أدوات الغياب»).

إلى هذا، ورغم انخراطي التامّ في البُعد الفلسطيني لفعالية براغ الرائعة، سمحت لنفسي باستحضار درويش في مستويين: الأوّل أنه كان يطرب للحركة الثانية، المسماة «فالتافا»، من مقطوعة «وطني» للموسيقار التشيكي الكلاسيكي سميتانا، فاستذكرته مراراً على ضفاف هذا النهر الأخاذ؛ والثاني مستوى سوري محض، إذْ يقترن ميلاد درويش باقتراب الذكرى الخامسة لانتفاضة الشعب السوري، فاستعدتُه دمشقياً: «في دمشق/ يواصل فعل المضارع/ أشغاله الأموية/ نمشي إلى غدنا واثقين/ من الشمس في أمسنا/ نحن والأبدية/ سكان هذا البلد».

صباح الخير، إذاً، يا محمود؛ وأنت من هناك، وأنت من هنا، حتى حين لا تكون هناك، ولا تكون هنا…

صبحي حديدي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى