مراجعات كتب

أوروبا قبل قليل من الحرب الثانية/ حسن داوود

 

 

■ المغامرة الأولى التي يُجبَر جوي كوفالسكي على خوضها، هي مقاومة إرجاعه إلى الطفولة بعد أن بلغ عمر الثلاثين. من قَرابة عائلية ما، أو من وصاية ما، أو من نظام ما أتاه ذلك المعلّم «بيمكو» ليرجعه إلى المدرسة، مخاطبا إياه كما يخاطَب طفل.

ولا يبذل «الرجل» مقاومة كافية لذلك التدجين، أو إعادة التدجين، فقد بدا له أنه مساق بقدرة غامضة مجهولة إلى المصير الذي اختير له. شيء يشبه ما جرى لـ«ك» في رواية «المحاكمة» لكافكا، حيث من لا منطق ومن لا مكان تأتي تلك السلطة القادرة، من دون سبب مفهوم لمجيئها. لكن هنا، في رواية «فيرديدوركه»، لا رهبة تحيط بهذه السلطة، إذ لا يعدو بيكو، معتقِلُ رجلنا، أن يكون شخصية هزلية، تافهة وقميئة. جوي وقع إذن في أسر تلك الشخصية التي نظن، نحن قرّاء الرواية، أن مقاومتها لا تتطلّب أكثر من ركلها أو صفعها.

وها هو جوي يُدخَل إلى المدرسة لينضم إلى أولئك «الشياطين الصغار»، على الرغم من أنهم باتوا جميعهم في أعمار المراهقة. العالم لا يقل كاريكاتيرية هناك، حيث ينبغي أن يظل أولئك الأولاد في مرحلة ما قبل النضج، أو حيث ينبغي أن يظلّوا قيد التربية على الدوام. لكنهم، على الرغم من وجودهم هناك في الوصاية، لم يتأخّروا عن إقامة ذلك الشغب بينهم، مظهرين عن عنف فائق، لكنه كاريكاتيري بدوره.

ذلك العالم الغريب ، الذي لم يرتّبه العقل ولم يحكمه، يصنع كل شيء في هذه الرواية. كل ما يمّر به جوي كوفالسكي ممتزج فيه العبث وفقدان العقل واللهو المستمر، رغم فداحة المواقف. إنه عالم صنعته الكاريكاتيرية بكامله. وكذلك هو الحال في الحكايتين اللتين تخترقان مسار الرواية لتحضرا مستقلّتين عن حكاية جوي. هناك، في الحكايتين اللتين لا يمكن وضعهما في الكتاب إلا بعد أن يستعيد الكاتب فيتولد غومبروفيتش سلطته على كتابه ويُخرج بطله جوي مؤقتا من الرواية، يحضر الخيال الأكثر تطرّفا وهزلية في الوقت نفسه. ولكلّ من الحكايتين يضع الكاتب مقدّمة لتفسير ما سنقرأ. وهذا الميل إلى وضع المقدّمات، وإلى تأويل ما سيرد لاحقا في ما يُروى ميلٌ راسخ لدى غومبروفيتش، بحسب ما ذكر في إحدى مقدّماته.

هنا، في المقدّمات، وكذلك في الاتجاه نحو تحليل المواقف وفلسفتها، يمثل الجانب الثاني من الرواية، وهو عقلانيتها الحادّة. ما ينبغي أن يستنتجه القارئ من توالي الأحداث وتواترها يأتيه واضحا في هذا الجانب الثاني. وهذا ما سيرسم مسبقا الأفق أو المجال الذي على القارئ أن يصنعه بنفسه. ولنضف إلى ذلك التخطيط العقلاني، ودائما بالترافق مع الهزلية والكاريكاتيرية، الذي تحكّم أيضا في ترتيب فصول الرواية. فالرجل جوي ومعه رفيقه الهارب «كباس» سيكملان رحلة هروبهما إلى حيث كل ما يمكن نقده أو الثورة عليه في حاضر بولندا آنذاك (في فترة ما بين الحربين، كما يعلّق الباحث يجي فرانتشاك المنشورة مقدّمته، هو أيضا، في مطلع الكتاب بالترافق مع مقدّمة الكاتب غومبروفيتش للطبعة الإسبانية. ويذكر هنا أن الرواية صدرت عام 1937 فيما كانت أوروبا تستعد لبدء الحرب العالمية الثانية).

فالرواية تتنقل فصولا بين الاحتجاج على ما تأتي به الحداثة «حيث حرية الجسد، المختلطة بحرية الروح، رياح الحرية العظيمة حيث تظهر سيقان النساء من تحت التنانير»، وكذلك الاحتجاج على عتق طبقة ملاك الأراضي (تلك التي يعرف الكاتب تقاليدها لكونه نشأ في واحدة من عائلاتها). وهجاؤه اللاذع للمحكومين من تلك الطبقة، للفلاحين الذين يجري تصويرهم، فيما هم يندفعون لتحطيم بيت العمة وإحراقه، في صورة كلاب هائجة كانت قبل قليل كلابا طائعة. كل شيء في الحياة جرى التعرّض له بالسخرية والهزء، كما جرى بالنقد التفصيلي، حين يصل الكاتب إلى نقد اللغة التي تُكتب بها الروايات، حيث هاجس الشكل يستولي على كلّ فرادة وخاصية عند الكاتب، طالما أن الشكل، أو ال Extern بحسب تسميته اللاتينية التي يؤثر الكاتب استخدامها، طاغ إلى حدّ أنه يستحيل التعبير من دون الانضواء فيه.

وهذا يطال تعبير البشر أيضا عن أنفسهم، «حيث الإنسان لا يعبّر عن نفسه بطريقة مباشرة وبما يتفق مع طبيعته، ولكن دائما في إطار شكل معيّن وأن ذلك الشكل وذلك الأسلوب، بل السلوك الوجودي، ليس من صنعه فحسب، بل هو مفروض عليه من الخارج».

يظهر الكاتب غومبروفيتش عن فلسفيّة روايته وهو بعد في مطلعها فيقول إن البشر، شأنهم شأن الكتابة، مجهولون لسواهم كما هم مجهولون لأنفسهم. ذاك أن نصيب الآخرين كبير في معرفة الشخص لنفسه. هذه الكينونة في حاجة للمساعدة ليعرف الكائن كنهها، وهذا سيظل عرضة للخطل والتسرّع وسوء الفهم وخبث النوايا، وكذلك لسوء الأداء عند الآخرين الذين يساعدون المرء على أن يعرف ما هي نفسه.

لكن هذه الأفكار «لا تحدث في المرتفعات، في حيّز التأمل المحض، لكنها تأخذ شكل القصة الرشيقة والمثيرة للمتعة»، كما يقول يجي فرانتشاك، ليضيف أن هذا ما يميّز غومبروفيتش عن مؤلفي الروايات الفلسفية أمثال، جان بول سارتر. هذا وكان ميلان كونديرا قد أقام تلك المقارنة أيضا بين الكاتبين حين ذكــــر أن اعتبار رواية «الغثيان» لسارتر نموذجا للاتجاه الجديد، وليس فيرديدوركه، كانت له نتائج مأساوية.

الرواية التي ظلت رائدة ومثيرة للجدل على الدوام تظهر بالعربية لأول مرة، بعد نحو ثمانين سنة على صدورها.

لم نعرف إن كان أيّ من كتب غومبروفيتش الأخرى، مثل «كوزموس» أو»اليوميات» قد ظهرت في واحدة من استفاقات المترجمين ودور النشر على موجات العالم الأدبية، حيث لا ذكر لذلك في هذه الترجمة التي عرّفت الرواية بمقدمتين اثنتين كما هو مذكور أعلاه.

فيرديدوركه» رواية فيتولد غومبروفيتش صدرت عن منشورات الجمل في 400 صفحة بترجمة أجنيشكا بيوتروفسكا ومعتصم بهائي 2016.

٭ روائي لبناني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى