صفحات الرأي

الإسلامي طارق رمضان والمفكر العلماني عبد الوهاب المؤدب يناقشان: أي دور يلعبه الإسلام في مستقبل الثورات العربيّة؟

 

 

أثارت الثورة العربية، التي اندلعت شرارتها الأولى في تونس، ومنها انتقلت إلى البلاد العربية، نقاشات كثيرة، حول ماهيتها، وأهدافها وإسلاميتها ومدنيتها وما يمكن أن تواجهه من تحديات ومخاطر. وفتحت «قضايا وآراء» باباً للنقاش، بنشرها نصاً للدكتور علي فياض، أثار ردوداً ولا يزال، وبنشر الحلقة الأولى من حوار عقدته مجلة «لو ديبا»، بالفرنسية، بين كل من الدكتور ناصيف نصّار والدكتور جورج قرم وعلي فياض أيضاً.

وهي تنشر اليوم، نقاشاً بين المفكر والأديب عبد الوهاب المؤدب وعالم الدين الحديث طارق رمضان. لإغناء الحوار، حول أبرز معلم وأبرز حدث في التاريخ الحديث، بعد حدث انتصار العام ألفين، الذي فتح الباب أمام انتصار الثورة الديموقراطية في العالم العربي.

لم تكن الثورات العربيّة في الحسبان. إلى أن أشعل رجل غاضب النار بنفسه فأشعل منطقة بأكملها. وفي غمرة الاحداث، استطاع أقل الناس متابعة للنشرات الإخبارية، كما المراقبون أن يلحظوا غياب الإسلام السياسي، من الساحات الممتلئة بالثوار. وعلى الرغم مما شهدته حقبة ما بعد 11 أيلول، من محاولة جذرية للتخلص من الواقعية السياسية التي عملت دائماً على التسامح مع الأنظمة الاستبدادية خوفاً من سيطرة الأنظمة الثيوقراطية، فإن الأسئلة المقيمة حول مكانة الهويّة الإسلاميّة في العالم العربي تعيد طرح نفسها.

اليوم، تبحث الأحزاب الإسلاميّة بدورها، بحكم موقعها الهامشي السابق في الساحة العربيّة، عن مكان لها وهي بين ما تمر به من تشرذم في صفوفها من جهة وإعادة تحديد استراتيجياتها من الجهة الأخرى، تراوح بين خيار الانتظار أو الانتقال إلى الديموقراطيّة. والسؤال الفصل هو، إلى أي مدى ستتلوّن التربة الثقافيّة الإسلامية بهذه الانتفاضات والإصلاحات والدساتير الجديدة؟ وأي دور لعبته الديانة الإسلاميّة في الثورات العربيّة الحاليّة؟ وأي مكان قد تحجزه لنفسها وسط الإصلاحات الدستوريّة والآليات الانتخابيّة الجارية في تونس ومصر؟

وإزاء تحديات مماثلة، جمعت صحيفة «لوموند» الفرنسية المؤدب ورمضان وجرى نقاش هادئ، بين جبهتين متعارضتين. من جهة، هناك شاعر ومفكر رفيع الطراز في الشؤون الإسلامية، ينادي بفصل الشريعة الاسلامية عن السياسة لأنه يرى أن «الأصولية هي مرض الإسلام»، حتى النص القرآني نفسه غير بعيد عن هذا المرض. من الجهة الأخرى، جلس الإسلامي المتهم بازدواجيّة خطابه، المتسامح في وسائل الإعلام والأصولي وراء الكواليس. وهو أستاذ محاضر في علوم الإسلام وحفيد مؤسس حركة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا. وهنا نص الحوار:

} هل تنظرون إلى الحركات التحررية التي يشهدها العالم العربي على انها حركات ما بعد إسلاميّة؟ وهل ترون أن المسألة الدينية لم تكن محور هذه التحركات، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تفسرونه؟

رمضان: ساهم الحراك الشعبي الحالي عموماً في تغيير مقاربتنا التبسيطية للقضية. كنا نرى الأمور من زاوية المواجهة بين الديكتاتورية والاسلام المتطرف، أي من الجانب نفسه الذي تبنته الأنظمة، وتلقفه حلفاؤها الغربيون على وجه السرعة. ولكن اليوم، إزاء تحركات شعوب تمتزج لديها الاتجاهات الاجتماعية والسياسية جميعها، من دون أن يكون لها قيادة محددة، وتحدد في أولوياتها قيم الحرية في وجه الديكتاتورية والفساد والمحسوبيات، فإن تحليلاتنا تتخطى أحياناً الخوف من الإسلام إلى إنكاره. في حين، لا تزال هذه الثورات مرتبطة بشكل أو بآخر بمرجعية إسلاميّة: فهي وإن كانت لا تقاد تحت راية الإسلام، إلا ان ما تنادي به من شعارات لا يتعارض مع الإسلام في شيء بل على العكس.

المرجعية الإسلاميّة لا تشكل عقبة أمام الاعتراف بالقيم الأساسية التي نتقاسم المطالبة بها جميعاً. فهذه قيم عالمية مشتركة وليست قيماً غربية دخيلة على الاسلام. ولا يعني غياب الاسلاميين عن رأس المجموعات المطالبة أنها ليست اسلامية. فالمرجعية الدينية لم تغب تماماً عن الخطاب الذي تبنته تلك المجموعات، لا سيما في وتيرة التعبئة الشعبية التي كانت تبلغ ذروتها أيام الجمعة.

المؤدب: ليست ما بعد إسلامية فحسب، إنها ما بعد الإسلام نفسه: هكذا أصنف حركات الاحتجاج التي اندلعت في كل من تونس ومصر. لم تكن مسألة المرجعية الدينية مطروحة في الأساس. ولم تنطلق الأحداث من قاعدة الهوية الدينية أو الثقافية، بل تجاوزتها. الذين تظاهروا لم يفعلوا ذلك لأنهم مسلمون إنما لكونهم مظلومين. وكل رأي نقيض لذلك يكون انعكاساً لردة فعل غربيّة ترى الاسلام في كل تحرك ينطلق من منطقة غالبيتها الدينية تعتنق الاسلام.

في التحركات الأخيرة، وحده شعار الحرية كمبدأ إنساني وحق طبيعي كان مطروحاً. فالذين تظاهروا طالبوا بالاستقلال والحرية، أي بالحق الذين يدينون به لبلادهم والذي حرموا منه على يد الطغاة من الحكام. فمن كانوا على استعداد للتضحية بحياتهم كانوا يطلبون أمراً واحداً: ان يصبحوا أحراراً. وكان بالامكان أن يكونوا صينيين او من أي مكان آخر.

رمضان: أختلف معك في هذه النقطة. فالحركات التونسية لم تتجرد، منذ بدايتها، من مرجعيتها الدينية أو الثقافية. وإن رفض المتظاهرون أن يروا الثورة بين يدي الإسلام السياسي مجدداً فإنهم مقتنعون في النهاية أن سعيهم للحرية منبثق من خلفيتهم التاريخية والثقافية والدينية. اللافت في تلك التظاهرات كان غياب الشعارات الغربية والمعادية لإسرائيل، فهي لم تحشد لا لمصلحة الغرب ولا من أجل مناهضته، إنما طلباً للحرية انطلاقاً من التاريخ والمرجعية.

} التحرّر، إذاً، لا يعني الخروج عن ثقافة الجذور بل على العكس يمكن تأطيره إسلاميا، ولكن ألا يوجد برأيكم فجوة بين ثقافة الديموقراطية والثقافة الاسلامية؟

رمضان: ليس بالضرورة أن تتعارض المناشدة بالقيم الديموقراطية مع الأرضية الثقافية أو الدينية. يجب علينا أن نفهم أن شيئاً لن يحدث في العالم العربي من دون أن يثير نقاشا سياسيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا حول موقع الدين ودوره في المجتمع والمؤسسات العامة.

لم تعد الأجيال الجديدة، حتى الإسلامية من بينها، ترى في إيران أو تركيا المرجعية الدينية كما في السابق. إنهم يرون في بلدهم الذي، يستطيع أن يدمج في نموذجه السياسي القيم التي نتفق عليها جميعا انطلاقاً من مرجعيته الإسلامية. في المغرب كما في مصر وتونس واليمن والأردن هناك شريحة كبيرة من الإسلاميين تؤيد قيام الدولة المدنية. حتى أن فكر الإسلاميين السياسي تطوّر بشكل ملحوظ على مدى السنوات الثلاثين الماضية.

المؤدب: برأيي، إن الأحداث الأخيرة التي جرت ساهمت بشكل كبير في تطوير جميع الميول والاتجاهات. لم نعد ساذجين كما في السابق عندما كنا نعتقد أن الديكتاتورية معارضة للإسلامية. فهذه الأخيرة، تستطيع، وفقاً للنموذج التركي، أن تتطور في إطار «الديموقراطية الاسلامية» كما حدث في ألمانيا وإيطاليا مع «الديموقراطية المسيحية». الوقت وحده كفيل بالإجابة عما إذا كان الشيخ يوسف القرضاوي صادقا أو انتهازيا في مناداته بالتحول من دولة اسلامية إلى دولة مدنية ذات مرجعية اسلامية، مشيراً في هذا الإطار إلى أنه لا يفكر في الدين إنما في الحضارة.

التمييز هنا أمر ضروري، وهو لا يضحى عملياً إلا إذا خرجنا من الدائرة المغلقة لمحيطنا إلى الأفق العالمي الواسع والمتنوع. ففي مكان مماثل فقط ينضج هذا التمييز. وذلك يعني أن نفتح النقاش انطلاقا من تعددية حضاراتنا: فإلى جانب الصين والهند والغرب، يستطيع الإسلام، بدوره، أن يسهم في الإثراء بشكل قيّم. فالدستور الذي نسعى لإرسائه لا ينطلق من القانون فحسب، بل من الأخلاق كذلك، ومن تجارب الأمم المختلفة.

} كيف ينبغي أن تكون المبادئ الدستورية المستقبلية للدول المنبثقة من رحم الثورات العربية؟ وما هي القيم الأساسية التي ينبغي أن تحكم بعد سقوط الديكتاتوريات؟

رمضان: أود أن أطرح هنا خمسة مبادئ لا يمكن المساس بها في أي دستور جديد: سيادة القانون، المساواة بين المواطنين، التصويت العام في الانتخابات الرئاسية، إلزام الرئيس بولاية محددة والفصل بين السلطات.

وأياً كان النموذج التاريخي الذي تأتي في سياقه، فهذه المبادئ هي مبادئ عالمية. وإن كانت المسألة الدينية أثيرت خلال الاحتجاجات الأخيرة، فلغرض طرح الأسئلة الأخلاقية حول الأهداف منها. والامة هي عبارة عن نقاش بناء حول الأخلاق والأغراض داخل دولة مصانة. ليس هناك في الاسلام وجه اختلاف بين السلطة العليا المرتبطة بالمسألة الدينية، وبين السلطة التي نطالب بها في إطار الدولة الديموقراطية والمدنية.

والجدير ذكره بالنتيجة هو أن العالم العربي بغالبيته المسلمة لم يقدم نموذجاً حقيقياً عن اقتران مفاهيم العلمانية والمدنية بآليات التحرر والديموقراطية. ولا ننسى أن زين العابدين بن علي وبشار الأسد وصدام حسين وحسني مبارك وحتى كمال أتاتورك نفسه سعوا إلى فرض النموذج العلماني وفصل الدين عن الدولة عبر أنظمة ديكتاتورية. فالعلمانية في عالمنا ارتبطت تاريخياً بالديكتاتورية والاحتلال.

المؤدب: تنتظم مجتمعاتنا الحديثة في إطار مفهومين اثنين: الجمهورية والديموقراطية. التقليد الفرنسي أعطى دائماً الاولوية للجمهورية، وهذا كان الحال مع الحبيب بو رقيبة في تونس وأتاتورك في تركيا. في هذه البلدان، انتهت السياسة القسرية، التي اتبعها الرؤساء بهدف التمدين والتطوير، إلى غياب تام للحرية. فداخل تركيا، أدّت هذه السياسة إلى إلغاء التعددية، التي كانت موجودة حتى في ظل الامبراطورية العثمانية، ولم يجر الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن أو بالخصوصية الكردية. أما أردوغان فحاول من جهته وضع الديموقراطية في المقام الأول. وفي مجتمع متمدن أساسا تحولت الإسلامية إلى ديموقراطية إسلامية. ولكن في المجتمعات الحديثة بالفعل يتم استبعاد الشريعة الاسلامية عن النصوص الدستورية، وعلى المشترع ان يحرص على الحفاظ على الإنجاز الذي حققته الثورات العربية والحفاظ على تماسك القانون في ظل حداثة فعلية. في حين ان الاستناد الى الشريعة الاسلامية ما زال فاضحاً في الكثير من البلدان. لذا يتطلب منا الامر جهودا حثيثة للتوفيق بين الدولة المدنية والقانون الالهي.

} ألن يكون أكثر إثارة للاهتمام أن يستلهم الدستور الاعتبارات الأخلاقية الإسلاميّة من دون أن تدرج ضمنه بالضرورة؟ لماذا نجازف بأن ندرج الشريعة ضمن الدستور؟

رمضان: لن تحلّ المشكلة سواء أدرجنا ام استبعدنا المفاهيم ذات الصلة بالخطوط المرجعيّة الأساسيّة في مجتمعنا. المطلوب اليوم الدخول في نقاش جدي حول جوهر المفاهيم الأساسية التي تحكم مجتمعنا، ناهيك عن النماذج السياسية المطروحة. في الحقيقة، إن مبدأ فصل السلطات لا يتعارض أبداً مع الإسلام، والمشكلة الجوهرية اليوم هي مرحلة الخطر التي نمرّ بها نتيجة محاولة البعض الانقضاض على الثورات التي تدور، فمنهم من يحاول إنشاء حكومات دينية، ومنهم من يريد الاحتذاء بالغرب وآخر يريد سلوك طريق ثالث: وحده النقاش الجدي يتيح الطريق أمام قيام مجتمعات حرة متصالحة مع نفسها.

المؤدب: كيف يمكن أن نوفق بين السيادة الشعبية وسيادة الله؟

علينا التوقف عن النظر إلى الشريعة بكونها بطاقة هويتنا، فالشريعة مجرّد وهم. عندما نستمع إلى ما يقوله طارق، أشعر وكانه يود أن يبدأ من الصفر بفرض الشريعة من منطلق القوة، في حين ان التقنية «الأداة» السياسية بأكملها بين يدينا. وأستند إلى ما طرحه ابن رشد في مسألة الاقتراض من الثقافات الأخرى. ليس علينا إعادة اختراع شيء، ويجب علينا كمسلمين أن نشكر اليونانيين على «مدّنا» بهذه الأداة. الغرب اخترع الديموقراطية، ولكنها مكتسب للبشرية جمعاء. ويتعيّن علينا نحن ان نطورها ونغنيها ونحاول تكييفها وفق ما نحن عليه. عصر التنوير ليس حكراً على الغرب، إنه ملك البشرية.

إعداد: هيفاء زعيتر

عن «لوموند الفرنسية»

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى