صفحات الثقافة

البَياضُ المُتمَمُ المُتنازَعُ بينَ حَلبَ والشّهباء/ آزاد عنز

 

 

مدينة الشمالِ بلا مُخاصَم ابنة الحجارةِ البيضاء وريثة اليقظةِ في التعيين، لا يَدخُلها النعاسُ فهو غير مُرحّبٍ به، يَقظَة تَرتَكنُ على يَقظَةٍ لدفعِها على أن تبقى يَقِظَة لا تستندُ إلى نومٍ أو سِنَة .

تفرّدَ السريانُ بتسميةِ المولودِ وتَسميةِ الحجارةِ المُتكئةِ على بعضها في لفظٍ مَجازيٍ للتسميةِ، ولشدّةِ بياضها كان لفظ المولودِ حلب. استقرَّ على حَالهِ إلى أن حلَّها العربُ في نَزَلٍ دائمٍ لمنطقِ الهجرةِ والشُخُوص، فتبَنّوا البياضَ وبياض الحجارةِ وظلال الحجارةِ واختلسوا التسميةَ في نَسْفٍ لُغويٍّ وإضافةِ تَعريبٍ مُتمِّمٍ للكلمةِ، فكانَ حَاصلُ الدّمجِ وحاصلُ تزاوجِ العربيّ والسريانيّ في إدغامِ اللُغةِ والهوّيةِ حلبَ الشهباء.

يَستهِلُها سَنا الصباحِ ابتداءً من شَرقِها فيَهمِسُ للمعقل المُنيفِ المُشرفِ على أحوالِ المدينةِ ورعاةِ الحجارةِ في تدبيرِ شؤونِ الحياةِ والإجراء. قلعةٌ تجلِسُ بحكمةٍ على تَلّةٍ اختلفَ التدوينُ في بنائها فكانَ مآلُ التنقيبِ عائداً للألفِ الثالثِ قبلَ الميلاد، حُصْنٌ يَبتزُّ النظرَ على حَيرةِ المدينة وعلى ارتباكِ أحفادِها الذين لا يفقَهون مَنطقَ السُكونِ والرُقادِ في تنظيم مشيئةِ الاجتهادِ ومُزاولة المِهَنِ والحِرَفِ لإحداثِ السِلعِ.

أمّا المساحةُ الشاغرةُ التي تتوسطُ رِئةَ المدينةِ الصاخبةِ اتّكلَ اللفظُ والتسميةُ فيها على الزعيمِ الوطنيّ سعد الله الجابري، فراغ يربطُ أبعادَ المدينةِ وجِهاتها بِبعضها بتنظيمٍ أغرٍّ وبديعٍ لا يُزاحِمهُ في فتنتهِ إلا سِحرُ الحلبياتِ اللاتي يَجِئْنَ إلى الساحةِ وهُنَّ بكاملِ حُسنِهِنَّ الذي ما إن رأتهُ الحجارةُ الصّماءُ نَطقَتَ بالجمالِ، بَياضُهُنَّ يَجذِبُ الرُجولةَ المُستوفيةَ شروطَها واللّامستوفيةُ شروطَها، بياضٌ لا يليهِ بياض، أمّا عِطرُهنَّ حكايةٌ أخرى تَترامى أميالاً ما إنْ تَنَفَسَها الموتى في الرَموسِ يُحيينَ ويَهجْنَ فكيفَ الأحياءُ مِنهم وهم على مقربةٍ منهنَّ، عطرٌ لا يكتملُ شَذاه إلّا إذا انتسبَ بأجسادٍ وضَّاحةٍ يحرّضُها إلى الكَمالِ كَمالٌ يَكتملُ بِهِنَّ.

يَجئنَّ إلى الفراغِ لتوثيقِ الوقتِ الفائضِ من محنةِ الأجسادِ المُرهقةِ على أنْ يُعيدَهُنَّ الفراغُ مُطْرَبين إلى متاهاتِ الحجارةِ البيضاء.

وأنتَ عائدٌ من مخارجِ القلعةِ الجالسةِ على التّلةِ لا يُسعِفُكَ المَسيرُ إلّا وأنتَ تتوه في مداخلِ أسواقِ حلبَ المُبتذلةِ العريقةِ، بابُ أنطاكيةَ يصرخُ في وجهكَ وينادِيكَ ورائحةُ الحِنّاء تَتَضَوَّعُ بحَماقةٍ في أرجاءِ المتاهاتِ والكهوفِ المُرسَّخةِ على البسيطةِ، مَتاهاتٌ مُفضِيةٌ إلى مَتاهاتٍ مُتتاليةٍ إلى أنْ تَتوهَ في إحداها أو أنْ تُعاوِنَكَ رائحَةُ البَخورُ الجليلُ إلى مَخارجِها.

سقوفٌ نِصفُ دائريةٍ وقُبَبٌ تَعلو الجُدرانَ المُستَوعِبةُ للمَتاهاتِ، جُدرَانٌ وسُقوفٌ مُتبرِّجَة مَوشومَة بنقوشٍ سالفةٍ تَنقُشُ في ذاكرَتكَ مدى أصالةِ وحَسَابَةِ الحجارةِ المُتضَمِنة للنقوش.

في العشرينَ من آذارِ ألفين وستة كنْتُ طالباً في جامعةِ حلبَ، أُقيمَ في حيّ الأشرفيةِ المركونِ شرقَ المدينةِ ذي الغالبيةِ الكُرديّةِ (أكرادُ عفرين)، الأكرادُ يَحتشِدونَ نهايةَ النهارِ لتأجيجِ الشموعِ الصامتةِ سَمَرَاً بمجيءِ العيدِ القومي للأكراد في اليومِ الذي يَليه، وفي تلكَ الليلةِ انتسبْتُ إلى الرتلِ المُتَقَدِمِ كأيّ ناشئٍ مُراهِقٍ زاخِرٍ بالحيويةٍ نَتَقَدمُ قُدُماً وسَيلٌ كرديٌّ جَارِفٌ صَامِتٌ خَلفَنا نخطو نحوَ دوارِ الحيّ وثَمّةَ كَتيبة حِفظِ النظامِ تنتظرُنا وكأنّ الكردَ غيرُ مُنظمين, تَدرجْنا وتدرجُوا واصطدمت الجُّموعُ ببعضها، سيلٌ كرديٌ عَنيفٌ فقدَ التوازن، أجسادٌ طُحِنَت أجساداً وأنا طُحِنْتُ مِراراً وأنا أُجاهدُ للخُروجِ من الفوضى الكُرديّة وعَاقِبَةُ ذلك خَسِرْتُ فردَةَ حِذائيَ اليمنى.

كاتب سوري

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى