صفحات العالم

الثورة الماكرة والنظام المفقود/ وسام سعادة

 

 

استاء الشاعر الفيلسوف قبل خمس سنوات خلت من نموذج الثورة التي تنطلق من المساجد.

وبالفعل، لم تتمكن الثورة «المساجدية» من حماية مشهديتها المتألقة الأولى في عامها الأول من قوة العسف والحديد والنار. ولا استطاعت «المساجدية» أن تكون صنواً لـ»المجالسية»، يوتوبيا ثورات القرن الماضي، التي استعيدت جزئياً في بدايات الثورة السورية، في شغل التنسيقيات.

لكن المساجد نالت بدورها نصيبها من التدمير على وقع تفشي هذه النظرية بأشكال متنوعة. خمس سنوات ونظرية «بئس ثورة تنطلق من المساجد» تستعاد بأشكال متمادية في «الانكشاف»، في حين دمّر عدد كبير من المساجد في سوريا، وتعطّل عمل لا يستهان به أيضاً، وبرزت الغلبة الأقلوية الطائفية بشكل نافر أكثر من أي وقت مضى. كذلك الامارات الجهادية المتفاوتة في الحجم والفانتازيا والكابوسية قلما استندت في دينامية انتشارها إلى المساجد بحد ذاتها.

مع ذلك ظلت نظرية «بئس ثورة تنطلق من المساجد» كانت تواصل طريقها، وهي من منبتها العلماني الفظ سرعان ما وجدت ضالتها المسيحانية – المهدوية في خطاب «تحالف الأقليات»: فهذا يقول لك: «بئس ثورة لا تكون تنويرية تقدمية تفكك النص الديني» وذاك، معه في الخندق إياه يتابع، «وبئس ثورة لا تنطلق من مفهوم الرجعة، ومن علامات ظهور القائم»، و»بئس ثورة لا تنطلق من الحوزة العلمية».. وهكذا!

لم يبق أحد لم يعلّم السوريين كيف تكون الثورات. هذا يستحضر شعاراً حفظه عن الثورة الفرنسية، وذلك عن الروسية، أو الإيرانية. حتى بشار الأسد، لم يخل كلامه في السنوات الخمس من نصائح نظرية وبرنامجية: ماذا ينبغي أن يفعله السوريون كي ينتصروا علي وينتجوا مشروعهم الوطني الديمقراطي النموذجي؟

لا يعني هذا أن الثورة السورية كانت تسير كل هذه السنوات على ما يرام. لم نعد تعرف أين الثورة السورية وأين الحرب السورية. التعثر في توليد حركة تحرر وطني للشعب السوري تؤطر تعددية ألوان الثورة وتتعاطى بشكل واقعي مع تعددية السوريين الاجتماعية والثقافية والقومية والمناطقية كان أيضاً كارثة على الثورة والناس بكل ما للكلمة من معنى. وطبعاً، «مساجدية» الثورة لم تزودها بالطابع الدينامي اللازم، ولا هي ساهمت في انتاج بديل ثوري ديموقراطي محقق في المناطق المحررة. أشكال الدعم الحكومية العربية والغربية للثورة السورية أيضاً كانت إما ناقصة وإما متأرجحة أو عديمة الكفاية، أو لم يستطع السوريون الاستفادة منها بالشكل المطلوب، أو بعضاً من كل هذا.

والثورة «كالحرب». كالحرب حتى لو كانت سلمية – أي أنها تخضع لمحددات المهارة في التخطيط والتنفيذ وحسابات نفعية وليس لمعايير الحق والأحقية ، فكيف الحال ان صارت مسلحة، ولم يعد بالمقدور رسم خط فاصل أين الثورة وأين الحرب؟

والثورة كانت ضحية الحرب. اضمحلت بفعل الحرب الاهلية ولم تندثر كلياً. لكنها اضمحلت، لتعكس كذلك الامر وقائع الكارثة الديموغرافية التهجيرية لملايين السوريين والتدمير الهيكلي للمجتمع السوري. لم تتمكن الثورة من تثوير الحرب الاهلية، كي يمكن وصفها بالحرب الاهلية الثورية، في استعادة للمنوال البلشفي. لكن الحرب الاهلية لم تلغ الثنائية المصدرية الأساسية: السوريون الذين لم يعودوا يقبلون باستمرار آل الأسد، وآل الأسد ومن معهم، سواء بحث الأمر بالزبانية، أو بالقاعدة الاهلية والركائز الاجتماعية للنظام.

والحرب لم تنته بعد. والثورة لا تزال ضحيتها. لكن كان يكفي هدنة ناقصة، هشة، كي يعود المشهد الاول، بنضارة حقيقية، وليس بافتعال احيائي او نوستالجي. تعود لتقول بمكر: هذه المرة، لم آدر من أين انطلقت، من مسجد أو من أي مكان، أو لا مكان. كل ما أدركه ان نظام آل الأسد لا يفتقد إلى الشرعية فحسب، بل انه نظام مفقود!

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى