صفحات العالم

الشياطين في النظام/ سامح المحاريق

 

 

حادث غامض أودى بحياة الابن البكر للرئيس حافظ الأسد باسل، وما زالت أسئلة كثيرة تتعلق بوقائع ذلك اليوم من شتاء 1994، ولعل حالة من الحزن الحقيقي طغت على الشارع السوري، فالابن كان عملياً ولي العهد لوالده، واستطاع أن يستفيد في مرحلة ما من حملة داعية واسعة لشخصيته، بما أعطى السوريين أملاً بقدرته على إحداث تغيير منشود ومرتقب لتحديث البلاد، طالما بالطبع لم يعد ممكناً لممارسة الحلم المشروع بالخروج من الظل الثقيل لأسرة الأسد.

فرضية الاغتيال بقيت قائمة، وأقوى من الصورة التي قدمها الإعلام لملابسات حادث سير عادي، والإجابة عمن اغتال باسل ترتبط أيضاً بحوادث انتحار غامضة، شملت رئيس الوزراء الأطول بقاء في منصبه محمود الزعبي، وملك لبنان غير المتوج في مرحلة ما، اللواء غازي كنعان، ولا تبتعد كثيراً عن ملابسات تفجير مبنى الأمن القومي السوري، الذي أطاح بعدد من الرؤوس الكبيرة في سوريا، وفي مقدمتهم آصف شوكت صهر الرئيس حافظ الأسد.

من يحكم سوريا؟ الإجابة السهلة والمريحة هي الرئيس بشار الأسد والفريق المقرب منه، ولكن مراجعة ملابسات التاريخ السوري حتى من قبل صعود حافظ الأسد تبين وجود غموض في بنية القيادة السورية بمختلف مراحلها، وفجوات أنتجت شخصيات مثل، عبد الحميد السراج وما زالت تعطي مجموعة من الأسماء التي تظهر وتختفي في ظروف غامضة.

جريمة خان شيخون تعيد طرح هذه الأسئلة الصعبة، فإما أن الرئيس بشار الأسد اتخذ القرار ويتحمل مسؤوليته، وهو الأمر الذي يبدو خارج إطار التفسير المنطقي، خاصة في ظل المواقف الأمريكية المتساهلة معه قبل الحادثة، وإما أن المعارضة استطاعت أن تنفذه وهو ما يعني أن الأسد لم يعد يستطيع السيطرة على سوريا، وبالتالي فهو ليس الحصان الذي يمكن أن يراهن عليه الأمريكيون في المرحلة المقبلة، ولم تكن التفاصيل حول هوية منفذ الجريمة في خان شيخون هي العامل الأساسي في الضربة الأمريكية للقاعدة الجوية في الشعيرات، ففي النهاية شخصية الرئيس السوري أصبحت عبئاً في الحالتين.

جرى تصعيد الرئيس بشار الأسد في منظومة القيادة السورية بعد الرحيل المفاجئ لشقيقه الأكبر، وعلى عكس باسل يبدو أن بشار لم يكن في الحسابات من الأساس، في مرحلة تحضير خليفة للأب حافظ، ولم يتمكن من الحصول على التأهيل المناسب، حسب المواصفات القياسية لحكم بلد بالغ التعقيد والتنوع والخصوصية مثل سوريا، ومع ذلك مضت الأمور بدعم من مؤسسات الحكم المرتبطة بالأسرة، وجرى تعديل الدستور السوري ليتناسب مع مواصفات بشار حتى في العمر، وحادثة 34 عاماً الشهيرة والمحرجة تبين مدى الاستهانة وقتها بالدستور والقانون لتمهيد الطريق للأسد الابن في منصب الرئاسة، فلم يعدل الدستور ليسمح بأن يكون عمر الرئيس 30 عاماً على الأقل لذر الرماد في العيون، ولكنه قدم بوصفه هدية بسيطة لعيون طبيب العيون.

من المستبعد أن تكون النزعة العنيفة صفة أصيلة في شخصية بشار الأسد، ولكنها صفة متجذرة في النظام، وبما أن الرئيس لم يكن رجلاً لهذه المهام في بداية حكمه، ولأنه يدرك تماماً أن ما يحميه ويكفل وجوده هو الإدارة المتكاملة للعنف المكبوت والقمع الممنهج في سوريا، فإنه ترك الخبز لخبازه طويلاً، ليستيقظ على طبول الربيع العربي التي انطلقت في درعا، وفي أسواق دمشق قبل أن تختطفها الجماعات المسلحة التي اعتقدت بأن النظام السوري سيلحق بالنظامين المصري والتونسي، وعلى أكثر تقدير بالنظام اليمني أو الليبي، كانت هذه السيناريوهات المطروحة، وبدت قريبة من التحقق في صيف 2012 قبل أن تتدخل إيران بكامل إمكانياتها في سوريا، وتلحق بها روسيا في تواجد صريح كان يسعى حثيثاً لجني ما يتيسر له من مكاسب، قبل أن يغادر أوباما الضعيف والمتردد البيت الأبيض.

مشكلة الكثيرين أنهم يربطون بين شخصية الرئيس بشار ونظامه، ووحدة سوريا وسلامة أراضيها، وكأن رحيل الأسد سيعني تلقائياً تفكك سوريا لمجموعة من الولايات القائمة على أساس طائفي، ومع أن المعطيات تشير إلى أن هذه العملية يمكن أن تتم أصلاً، وهي جارية إلى حد ما حتى في ظل النظام الحالي، إلا أن الربط التعسفي منح الرئيس الأسد أنصاراً مجانيين ومتحمسين، وجعله يستطيع أن يستثمر من الممازجة المغلوطة بينه وبين سوريا، بحيث أصبحت عبارة سوريا الأسد تتجاوز موقعها بوصفها شعاراً يقوم على البلاغة ليصبح أمراً واقعاً يتعامل معه الجميع بوصفه بدهية لا يمكن تجاوزها.

المشكلة ليست في الأسد ولا ما يتبدى من رأس جبل الجليد لنظامه، ولكن في تلك الفجوات الغامضة التي تدير المشهد بأسلوب مافيوي، مستغلة التخندق الطائفي في البلاد والثارات القديمة التي تمتد حتى لما قبل حماة 1982، ولنقل بأن جذورها الاجتماعية تمتد لعدة قرون، منذ أن أصبحت سوريا ملاذاً آمناً لمجموعة من الطوائف الدينية التي استغلت لتحقيق نموها وتثبيت وجودها بوصفها كتلة مؤثرة في المشهد تتابع الحملات الفرنجية على بلاد الشام.

هذه المنظومة القائمة على الخوف وتبادل مواقع الاضطهاد والاستغلال، استطاعت أن تشكل سوريا الحديثة، وأصبحت العامل المؤثر في تحديد توجهاتها وتغذت بتلاعبات أصحاب المصالح، سواء الاقتصادية من الاقطاعيين والبورجوازيات الصاعدة، أو الزعامات الدينية المحلية والمنتدبة للتمثيل لدى الدولة العثمانية ودمشق بعد ذلك، وتفاقم المشهد سوءاً مع الهندسة الاستعمارية التي وضعت كل الفخاخ الممكنة في تصميمها للدولة العربية الحديثة، خاصة الدول التي نتجت عن اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة، ومنها سوريا بالطبع التي شهدت انتزاعاً قسرياً في منطقة الجزيرة ذهبت لدولة العراق التي شهدت هي الأخرى سرقة جزء كبير من إقليم الأهواز لمصلحة ايران.

يبقى أو يرحل الأسد لا يمثل خطوة للأمام في سوريا، كما لم يكن يعني رحيل صدام حسين أي شيء للعراق، فكل الهندسة الاجتماعية القائمة تغذي وجود الشياطين في داخل النظام، وهذه الشياطين تتحالف من أجل أن تمتص دماء الشعوب من مواقعها الآمنة في فجوات أنظمة غير قائمة على الشفافية وغارقة في الأناشيد والأكاذيب، وبعد رحيل الأسد الذي سيحدث عاجلاً أم آجلاً، وبعد تقاسم الغنائم السريعة، فإن هذه الشياطين ستظهر وتعود لمواقعها وأنشطتها من جديد، كما يحدث في العراق الذي كان يستنزف داخلياً في زمن صدام حسين بينما أصبح استنزافه وتجفيف ضرعه يتم لمصلحة الخارج حالياً، وبأدوات تستطيع دائماً أن تدعي الديمقراطية، وأن تضع نسختها الخاصة من العدالة في توزيع المغانم. خان شيخون والشعيرات مجرد عناوين فرعية ولكنها تتصدر المشهد لتغيب العناوين الرئيسية والأسئلة الخطرة.

كاتب أردني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى