صفحات الرأي

الصراع سابق على الفكر

 

 

سركيس ابو زيد

أثار مقال الدكتور علي فياض الذي نشر في جريدة «السفير» مجموعة اسئلة جريئة خصوصاً لموقعه المميز كنائب في كتلة «حزب الله». لن اتوقف عند التجارب والافكار الغربية التي استعرضها رغم اهميتها. بل سأكتفي بذكر بعض الملاحظات بهدف إغناء النقاش.

1 – استهل الدكتور فياض مقالته من فرضية ان العالم العربي يشهد «مرحلة انتقالية تتسم بكل السمات الأساسية للمراحل التاريخية الاستثنائية التي تمهد لتحولات اكثر جذرية». ويخلص متسرعاً «ان العودة الى الوراء تبدو شبه مستحيلة».

هذه النظرة التفاؤلية لا تنطبق على النهج الذي استعرضه حول مفاهيم الحتمية والاحتمالية والتفسيرية والتحولات الفُجائية. فقد غيّب عن قراءته مقولة اساسية وهي الصراع ونتائجه المرهونة بموازين القوى ومحاولات الثورة المضادة والمساعي الاحتوائية من قبل قوى الاستكبار العالمية واسرائيل والرجعية العربية. وفي هذا المجال اذكر بما اثارته الثورة العربية الكبرى التي اعلنها الشريف الحسين في العام 1916، والتي كانت تحلم باستعادة الكرامة العربية وانشاء دولة عربية متحدة مستقلة عن الامبراطورية العثمانية. ولكن سرعان ما انتهت الى خيبة ونكسة ادت الى تقسيم المنطقة العربية على اساس اتفاقية فرنسية ـ انكليزية عرفت باتفاقية «سايكس بيكو» وتنفيذ وعد بلفور للصهيونية باقامة دولة اسرائيل في قلب العالم العربي.

كل عربي مخلص لا يتمنى ان تنتهي الثورات او الانتفاضات العربية القائمة الى نكسة جديدة، لكن المراقب الموضوعي لا يستطيع ان يغفل امكانية «العودة الى الوراء» وخصوصاً ان مشاريع تقسيم العالم العربي لا زالت هدفاً ومسعى جدياً للمخططات الصهيو – أميركية، وملامحها تخيم على السودان وليبيا واليمن والعراق، فضلاًَ عن الدول العربية الاخرى. كما نشهد أيضاً انتشاراً واسعاً للفوضى وللقوى التكفيرية، ما يزيد المخاوف على الحرية والنهضة الوطنية. لذلك يشهد العالم العربي تحولات باتجاهين، اما ولادة عالم عربي جديد يؤسس لنهضة عربية جديدة وعلاقات عربية اتحادية وتكاملية واما اعادة ترتيب البيت العربي على اساس تشكيل كيانات طائفية وعرقية وجهوية على قاعدة رسم حدود تقسيمية جديدة تفتت المُفتت. والكلام عن سايكس بيكو جديد ليس بكلام غريب او بعيد عن مسار الاحداث الجارية على ارض الواقع.

لا شك ان الدولة العربية القطرية الراهنة تواجه ازمة مصيرية، لكن لا يمكن الجزم بانها ستتحول ايجاباً الى النهضة والتكامل، طالما ان احتمال حرفها الى التجزئة ما زال وارداً وممكناً، خصوصاً بسبب غياب القوة الوطنية الذاتية والقاعدة القومية القادرة على حماية منجزات الثورات العربية.

هذه الخلاصة يشير اليها عرضاً الدكتور علي فياض في سياق مقالته لجهة الاضاءة على المعوقات والصعوبات، فهو يؤكد اننا «امام عملية تاريخية في سياق صنع عالم عربي جديد، وهذه العملية فتحت الباب امام مرحلة انتقالية غامضة المآل، لكنها تواجه عوامل تاريخية ايضاً في المحافظة على الوضع القائم، عوامل اعاقة او عرقلة او مواجهة، مثل التشكيلات القبلية والجهوية والطائفية داخلياً، او النظام الدولي بادوات السيطرة الغربية عليه، والتي تسعى الى ابقاء المنطقة خزاناً بشرياً راكداً، وكخزان نفط سيال، وخزان استبداد ينتمي للعالم القديم».

ان عوامل الاعاقة التي يسميها الدكتور علي ويستثني منها العامل الاسرائيلي ومشاريع التقسيم والاحتواء، قد لا تؤدي فقط الى «المحافظة على الوضع القائم» كما يتفاءل، بل قد تحرف الثورات العربية عن اتجاهها الايجابي الى مزيد من التبعية والارتهان، وذلك من اجل ضمان امن اسرائيل من جهة، ومزيد من الهيمنة الغربية عبر التقسيم من جهة اخرى.

لذلك مطلوب النظر بتمعن وحذر الى المرحلة الانتقالية لجهة الكشف عن طبيعة الصراع باتجاهيه التقدمي والرجعي وموازين القوى (العربية والدولية) وقدرة القوة العربية التغييرية الصاعدة على امتلاك رؤية وإرادة لإنجاز مهماتها الثورية في قيام نظام جديد قادر على حماية إنجازاته داخل مجتمعه وفي جواره القومي.

لهذه الاسباب «العودة الى الوراء» امكانية واردة ولا يمكن استبعادها، لأن حركة الصراع ليست حتمية الاتجاه. بل هناك فرصة للتغيير والتقدم الى الامام، وفي الوقت عينه، هناك احتمال للنكبة والتراجع الى الوراء، ومزيد من التبعية والرجعية. (تنامي الحركات التكفيرية اكبر دليل).

2 – يحاول الدكتور علي فياض في مقالته استنباط نظرية جديدة لفهم التحولات العربية التي لا يمكن صياغتها «بالاستناد الى عامل محدد» ومن خلال قراءته للثورات العربية استنتج انه «لم يكن هناك دافع واحد، ثمة تداخل عوامل عدة لا تختزل في التحليل الاقتصادي الذي يتصل بالجوع والبطالة ولا تختزل كذلك بالتحليل السياسي الذي يرتكز على سياسات النظم المذلة تجاه الدور الاميركي واسرائيل والقضية الفلسطينية».

اشارك الكاتب في ما وصل اليه واشير بانني نشرت في مجلة تحولات في عدد ايار مقالة لتفسير الثورة المصرية ذكرت فيها أنها «ثورة مركبة لها اسباب مادية – نفسية قام بها الشعب بمختلف فئاته وطبقاته، ضد نظام متعاون مع العدو الخارجي (اسرائيل واميركا) ومتحالف مع طبقة مستغلة مستفيدة وقامعة (كبار الرأسماليين وكبار رجال الامن وحاشية من الاقرباء). انها ثورة الانسان المقهور مادياً ونفسياً من اجل لقمة العيش والكرامة معاً من اجل الحرية والعدالة والعزة القومية ضد البؤس المادي (الاقتصادي – الاجتماعي) والاذلال الروحي – المعنوي (الوطني/ القومي/ الانساني)».

ان النظرة الجديدة التي يسعى اليها الدكتور فياض تجد جذورها في المنهج المدرحي الذي اعتمده انطون سعادة في مؤلفاته. لكن بسبب نضاله واستشهاده لم يتثنى له شرحه نظرياً في شكل كافٍ، لكن هذا المفهوم توسع في تفسيره الدكتور ناصيف نصار في كتابه طريق الاستقلال الفلسفي والدكتور عادل ضاهر في كتابه الانسان ـ المجتمع والراحل انعام رعد في كتابه المدرحية.

دعا سعادة «الى ترك عقيدة تفسير التطور الانساني بالمبدأ الروحي وحده، وعقيدة تفسيره من الجهة الاخرى بالمبدأ المادي وحده، والى التسليم معنا بان اساس الارتقاء الانساني هو اساس مدرحي…».

والمدرحية هي نظرة الى الانسان ـ المجتمع دون الغوص في ما ورائيات ما هو قبل وبعد الوجود الانساني وهي تتجاوز السؤال الفلسفي التقليدي المحكوم باسبقية المادة او الروح، لأنها تعتبر الانسان اولاً، فيه تتجسد وتتفاعل العوامل والدوافع والابعاد.

وهذه النظرة تقوم على مبدأ التفاعل بين الاساس المادي (البيئة الطبيعية والاجتماعية والاقتصاد) والبناء النفسي الروحي (القيم، الثقافة، الفكر، المعارف والوجدان…). وقد عبر عنهما بكلمة واحدة من استنباطه «المدرحة».

الانسان هو المقياس والوسيلة والهدف وفيه تلتقي العوامل والدوافع والابعاد فهذه المفاهيم تبقى مجرده اذا لم تتحول الى شعور ووعي وارادة وفعل ضمن ظروف موضوعية وذاتية مؤاتية.

لذلك الكرامة بحد ذاتها تبقى شعاراً ومثالاً وليس فعلاً اذا لم يحولها الانسان والمجتمع الى قوة تغيير.

دريد لحام في مسرحية «كاسك يا وطن» اشار الى ان المواطن العربي يفتقد الكرامة لكن هذه العبارة لا تتحول الى فعل عملي الا عندما يشعر بها الانسان ويعيها ويحولها الى ارادة وعمل والتزام جمهور واسع، لتصبح قوة فعل وتغيير في الواقع التاريخي.

لذلك وبعد تحليله للحدث العربي الجديد يقول الدكتور علي انه وجد نفسه امام «موضوع جديد لعلم السياسة وعلم الاجتماع العربي»، فدعا «لاعادة بناء النظرية السياسية» ولانه «لم يجد تسمية أخرى» فاختار «مفهوم الكرامة» بوصفه بنية كلية تتجاوز التحليل المجتزأ، الذي ينزلق الى اختزال حركة الشارع ببعد محدد او وفقاً لعامل واحد دون سواه…».

هنا اقترح استبدال مفهوم الكرامة بالانسان اولاً، الكرامة جزء من البنية الفوقية النفسية الاخلاقية، ولان الكرامة وحدها لا تعبر عن البؤس والعوامل المادية الاقتصادية الاخرى التي حركت الانسان الثائر في العالم العربي.

ان محنة الانسان في العالم العربي تنطلق من ان الانسان يعاني من البؤس والقهر والاذلال ومن مختلف العوامل والابعاد التي اشار اليها الدكتور علي نفسه.

ان تفسير الظواهر الاجتماعية لا يمكن ان يفهم بواسطة قوانين تجريدية ومقولات مطلقة، لان الواقع الاجتماعي يختلف عن الواقع الطبيعي والموضوعات الميتافيزيقية لوجود دور وفعل للانسان الذي تحركه مصالح مادية ـ روحية وهو يمتلك امكانات وقوى قادرة على الاختبار والفعل والوعي والتخيل والتذكر. لذلك يجب اعطاء اولوية للانسان في النظرية السياسية والاقتصادية والتاريخية.

ان دراسة الواقع الاجتماعي تنطلق من المجتمع والانسان وهو مركب اجتماعي اقتصادي نفساني ويمكن فهم الظواهر الاجتماعية على اساس فهم حركية الانسان في المجتمع. وهي حركة مستمرة في مكان وزمان محددين ولها اتجاه عام يحدد طرفي فعلها تاركاً المجال لحيز من الحرية التي هي اختبار الممكن والضروري لتحديد العوامل والدوافع والابعاد التي تؤثر في موقفه وموقعه.

باختصار: النظرية موجودة وبالتالي لا داعي لنظرية جديدة لكن المطلوب هو درس حركية الانسان العربي اليوم في مكان محدد وزمان معين لفهم دوافع غضبه وثورته وآلية تحول وعيه الى عمل تنفيذي وفعل في التاريخ.

3 – اشار الدكتور علي الى دور الشباب والاعلام، ويمكن التوقف طويلاً عند هذا الموضوع خصوصاً لما للطلاب من دور فعال في عملية التغيير، لأنهم من خارج القوى الطبقية التقليدية وذلك بسبب عامل الوعي والمعرفة والاعلام.

وهنا اريد ان اشير الى ان الاعلام عامة والفايسبوك تحديداً هما من الوسائل التقنية لنقل المعلومات والمعرفة، والوسيلة رغم اهميتها لا تولد الوعي والفعل بذاته، بل بقدر ما تحمل من رسائل ومضامين.

الثورات العربية احسنت استعمال الفايسبوك (في اليمن انتشار الانترنت محدود). لكن الجماهير العربية تحركت ليس بفعل الاعلام الافتراضي الذي له دور احياناً في التضليل والالهاء بل تجمهرت في الجوامع خلال صلاة يوم الجمعة، وقد تجمعت في الساحات والشوارع والميادين حيث يتم اللقاء وجهاً لوجه. بدوافع مادية ونفسية (البؤس والكرامة) وايمانية احياناً (الصلاة).

4 – توقف الدكتور فياض مندهشاً عند ظاهرة «البوعزيزي سندروم» واعتبرها خيمياء الواقع الاجتماعي – السياسي واعطاها بعداً صوفياً لأنها «كـمبدأ غامض»، واعتبر «كأن فعلها هبط من السماء تعبيراً عن إرادة إلهية نافذة» وهي بحسب تعبيره مؤشر الى «عودة الميتافيزيقا الى حلبة العلم». وفي مكان آخر يسارع الى «استثناء ظاهرة المقاومة التي لها سياقها الخاص، والتي شكلت تعبيراً مبكراً عن علاقة التجاور الخلاَّق بين العقلانية السياسية والميتافيزيقا، ولنقل الإيمان ببعده الغيبي، وبوصفه محركاً ثرياً للإرادات الحرة».

رغم اهمية «لحظة البوعزيزي» الا انها ليست ظاهرة جديدة وفريدة في تاريخنا.

ان الاستشهاد هو فعل انساني عرفته حضارتنا القديمة وثوراتنا المعاصرة و«حزب الله» هو أحد تجلياته. ان الانسان الذي يموت اختياراً لتحيا قضيته من بعده عرفها الآلهة وتموز منهم، والديانات السماوية والمسيح ابرزهم، وحركات الفداء من فلسطين الى لبنان الى غيرها عرفت قافلة من الشهداء العلمانيين والقوميين والاسلاميين، لان الظروف الاجتماعية – الاقتصادية – القومية توفر الدافع الموضوعي، حيث يلتقي عاملان اساسيان هما: البؤس والاذلال مع الوعي والارادة تنفجر لحظة عنف ثوري تغير رتابة الواقع، وبالتالي لا يمكن حصرها «بعودة الميتافيزيقيا»، لأن دوافع الاستشهاد لا يمكن حصرها باسباب جهادية دينية، ومن اجل جنة ما ورائية، بل استشهدوا احتجاجاً على البؤس والظلم والفساد لتحرير ارض قومية ومن اجل قيام العدالة والمساواة والحرية والكرامة على الارض.

ان «لحظة البوعزيزي» غير معزولة عن الظروف المجتمعية المادية – النفسية للانسان في مكان وزمان محددين باوضاع خارجية / داخلية، اقتصادية وقومية لتفجرها.

حالة «البوعزيزي» لها ما يشبهها قبل وبعد ولم يكن لها القها التاريخي نفسه، لان الظروف الموضوعية والذاتية لم تكن في سياق الحدث.

نجح الدكتور علي فياض، ومن موقعه كنائب من «حزب الله»، في دوره كمثقف عضوي في قلب المقاومة على حسن ادائه «الوظيفة التحفيزية للافكار» وعلى الاجتهاد الجريء والحر في مقاربة حدث تاريخي ما زال في مساره ومفاجآته، فهل تكون مقالته نداء ودعوة للمفكرين الاسلاميين والقوميين واليساريين والليبراليين حتى يصالحوا رؤياهم الحزبية مع ضرورات التواصل والانفتاح والاعتدال والواقعية؟ ونقول معه ومع الثورة المصرية بانه ليس فقط «الاسلاميون لم يختفوا لكنهم تغيروا» بل ان القوميين والليبراليين واليساريين والمثقفين والمفكرين العرب ايضاً مطلوب منهم ان يتغيروا بعد ان اختفوا.

ان مبادرة الدكتور علي تستحق ان تتوج بندوة مفتوحة يشترك فيها المقاومون الاسلاميون والقوميون واليساريون والعلمانيون من اجل بلورة رؤية عربية جديدة للمقاومة والنهضة والحرية معاً، رؤية متعددة الافاق وتتجاوز زمن البعد الواحد الذي اسرنا.

 

([) كاتب من لبنان

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى