صفحات الرأي

الغرب وحصته من مسؤولية الهجرة والإرهاب/ مطاع صفدي

 

 

إنهم لا يجازفون بالتخلّي عن الأسد إلا بعد أن يضمنوا البديل الأفضل. هؤلاء المتفقون حول هذه المقولة يختلفون إلى ما لانهاية حول من يكون هذا البديل. ههنا يبدو الجمع المتفق حول ضرورة رحيل الأسد، وفي اللحظة عينها أنه مفترق عن بعضه، موزعاً ما بين دول عديدة، وموكولاً إلى تنظيمات وحزبيات وفئويات من كل جنس ولون؛ فكل فريق له مرشحه الخاص، إن لم يكن كشخص معين بالذات، فقد تنوب عنه الخصائص المطلوبة التي سيعثرُ على من سوف يجسدها.

لم يسبق في سير التاريخ العالمي أن شعوباً تعطلت ثوراتها بسبب فقدان الوريث. والحال السورية الراهنة من وقف التنفيذ هي بدعة عجيبة وغير قابلة للتصديق أي أن هذا النوع من أعداء النظام إنما يتعلّل أقطابه بعدم السيطرة على (اليوم التالي) بالخوف من مفاجآته، كي يلغوا أجندته كلياً. إنهم يحرمون الثورة من أهم محركاتها التاريخية، من أنضج ثمراتها وهو اليقين بحتمية انتصار الحرية.

عهود الاستبداد، وسوريا مثالها الأقوى، عودّت شعوبَها على ممارسة اليأس من أية آمال منيرة للأيام التالية على المتغيرات الثورية. فكان دعاة النظام وانصاره يختمون كل نقاش حول التغيير مع منتقديه باستدعاء تلك الحكمة اليائسة وهي أنه لا وريث لنظام إلا الفوضى واستبدادها الديني المعروف. هاهي الانحرافات الكبرى الرهيبة اختطفت أحلام الثورات وأغرقت البلاد في مستنقعات الهمجية البدائية. كأنما تلقى تلك الحكمةُ البائسة برهانَهَا الواقعي كلَّ يوم في حصاد الفظائع المتنافسة فيما بينها.

عهود الاستبداد العربي هذه غطت كامل الحياة السياسية وتطوراتها منذ تسلم الغربُ الأوروبي قيادةَ العالم العربي ما بعد تفكك الامبراطورية العثمانية. فلقد مارست جيوشُه طغيانَها المباشر طيلة حقبة الاستعمار، ثم أورثت فعاليته لما سوف يوصف بأنظمة الاستقلال الوطني. وحينما بلغ الاستبداد أوج اتحاده بالفساد المعمم حان أوان التمردات الشعبية، وما يمكن أن تولده من انتفاضات عفوية وصولاً إلى اندلاع ثورات جماهيرية كبيرة. وطيلة هذه الرحلة ما بين حقبتيْ الاستعمار الاحتلالي، وما بعده من الاستعمار غير المباشر عبر مرحلة الاستقلال، لم يكن لأي حدث له طابع العمومية أو أشباهها أن يقع دونما علاقةً ما بوحي غربي. ومع ذلك يقر الغرب أنه لم يكن له رأي أو يد في انطلاق «الربيع العربي»، لكن ذلك لم يمنعه من أن ينكبّ سريعاً على مختلف مجرياته فيما بعد انتفاضته الأولى في تونس. وعبر السنوات الأربع تخبّط الغرب ما بين متعرجات وقائع الربيع الدموية في معظمها، والسياسية في أقلها أو أضعفها، والغرب راهنياً غارق حتى أذنيه في أخطر وأوحش مستنقعين للربيع المحبط هما سوريا والعراق.

واليوم يتصاعد النقاش في أجواء الدبلوماسية أوروبياً وأمريكياً حول المسؤولية عن انفجار الظاهرة الإرهابية كوليدة لإحباطات الربيع المتراكمة، وإجهاض آمال الديمقراطية وحرياتها المستحيلة، وإبدالها باستبداديات العقائد القروسطية ودعواتها الدموية والإقصائية المسعورة. فمن يصغي أحياناً إلى بعض حجج المعارضين لسياسة الرئيس الأمريكي أوباما من الطبقة الحاكمة الأمريكية، ومن مسؤولين اداريين كبار ومن أعضاء الكونغرس – والصحافة، وأندية المثقفين ومن يتابع هذه الأصوات المحتجة بل اللائمة، وبعضها المدينة بتُهم عظيمة، يدرك بسهولة حجم الانشقاق الكبير الذي أحدثته صدمة الإرهاب بعد أن أودى بحياة عشرات من السياح البريطانيين في تونس. فالأنكلوسكسون المتحسسون بمصابهم ينتابهم الغضب والحزن كإهانة لسمعتهم العالمية، كما لو أن الكارثة هي مقتلة سياسية وقعت في شوارع لندن أو نيويورك، وليس في شاطئ تونس.

فقد خرج أخيراً في هذا الغرب من يتساءل عن حقيقة الإرهاب. عن أسبابه وظروفه وعن أفكاره ورجاله. هناك من يشعر أن العالم العربي يكاد يفلت نهائياً من حديقة الغرب الخلفية. فقد يستيقظ صوت الغريزة الأعتق للاوعي الجمعي في حفظ البقاء؛ فتتصاعد الخشية الدهرية التي اعتادت أن تتوارثها ممالك الشمال البارد، إزاء زحوفات الشرق الملتهب بعقائد فتوحات العالم، وذلك منذ غزو الساسانية الفارسية ليونان ما قبل الميلاد إلى غزو المسيحية الفلسطينية كعقيدة سماوية لمعظم شعوب الإمبراطورية الرومانية، وبعدها بعدة قرون فتح الإسلامُ العربي أندلس اسبانيا، ومنها انطلقت جيوش طارق بن زياد التي اخترقت أعالي جبال البيرنيه، ذلك الحاجز الطبيعي الهائل ما بين جنوبي أوروبا القارة وشمالها، حتى كاد عرب الصحارى أن يصلوا إلى باريس، لولا أن صقيع الشتاء الشمالي قد اكتسح أجساد مقاتليهم النحيلة، بدَّد قواهم قبل أن يُهزم الغزاةُ عسكرياً من قبل المدافعين عن مدينة بواتييه، حيثما توقف الزحف الإسلامي وسط بلاد الفرنجة (فرنسا) ـ حسب تسميتها القروسطية ـ فاللاوعي الأوروبي، كأنما لا يمكنه أن يتحرر من كوابيس الغزوات (البربرية) منذ أيام جنكيزخان وصولاً إلى تهديدات جيوش تركيا العثمانية للعمق الأوربي. وبعد الحصار العثماني لحدود (فيينا) مراتٍ متوالية خلال احتلال الإمبراطورية التركية لما يعادل ثلث القارة الأوروبية لقرون عديدة. وراهناً هاهو الإرهاب الإسلاموي يكرر التهديد التاريخي، فهو بعد أن قدّم أعلى نماذج إنتاجاته المروعة على مسارح المشرق البائس، فقد تلقاها اللاوعي الغربي كرسائل عن عينات أفعاله القادمة فيما لو عجزت أوروبا الاتحادية مجدداً عن ابتكار أية حلول جذرية ضد موجات الهجرة الجنوبية. فالهجرة والإرهاب يقرعان أبواب القارة. كلاهما لم يعودا مجرد أخطار خارجية. بالمقابل فإن الغرب لم يفكر بعد بما يتجاوز وسائل الدفاع التقليدية. لم يرْقَ بعد إلى مستوى المعالجة السياسية الكلية، بل الاستراتيجية لأي من هاتين الظاهرتين، وخاصة لعمق العلاقة التراجيدية والتكاملية بينهما..

هكذا تطفح كوارث الجنوب الإسلاموي المسكون بجزاريه وضحاياه معاً، لتفيض على فضاءات جيرانه الشماليين. فهؤلاء الشماليون ألِفوا مذهباً عجيباً في الحياة. فهم يسكنون بأجسادهم النظيفة جداً في بيوت نظيفة، قائمة في مدن نظيفة. يأكلون ويشربون ويلهون ويتناسلون وفق أنظمة الدقة والنظافة.

إنهم نجحوا في بناء مدنية تخصّهم وحدهم. لكنهم جعلوا أفعالهم وأفكارهم تمتد إلى أصقاع الأرض كلها، وتحديداً جعلوا من دولهم أوصياء بالقوة والفعل على معظم جيرانهم من الجنوبيين، فكان هم الغرب أن يتابع هؤلاء الناس السمر غير المنظمين أبداً، سجْنَ ذواتهم إرادياً/لاإرادياً ضمن قواقع بؤسهم اليومي، أن يظلوا أسرى العزلتين معاً، الجغرافية والحضارية. لكن هؤلاء التعساء اخترعوا أخيراً أساليب اختراق الحدود وامتطاء أمواج البحر واصطياد الشواطئ البعيدة وهناك البعض الآخر ممن اختاروا الثورة ضد القتلة أينما كانوا ولما انخرطوا في الفعل فقد أصبحوا قَتَلَة القَتَلَة وسواهم في وقت واحد.

الغرب يسمي الظاهرتين الهجرة والإرهاب بالكارثتين، يتهم الإسلام بالمسؤولية الكلية عنهما، وبالطبع يبرّئ ساحته من كل حصة، ولو معنوية من أسبابهما البعيدة بل المباشرة.

هذا الاتهام لم ينل من الوقائع أدنى فعالية في لجم الأسوأ منها، سوى المضي بعيداً في استعمال الحلول الأمنية على حساب الأغلبيات المدنية من شعوب المنطقة المتوسطية، والعربية منها تحديداً، تلك التي لا تزيدها الفواجع العامة سوى مضاعفة وسائل القمع من زعمائها التي لن يدفع أثمانها إلا من تبقى من الأحرار وأشباههم.

غير أن الجديد في هذه اللوحة الداكنة ليس هو الأمل في يقظة تضع الغرب أخيراً أمام حتمية لا فكاكَ منها، وهي أنه عندما يجري التساؤل حول حصص المسؤوليات بين أطراف المآسي من مخططين وجلادين وضحايا، فلا شك أن بعض الفكر الغربي غدا مضطراً للإقرار بهذا المبدأ حول معيار المسؤولية في تطبيقه الحر إن وقع يوماً ما، سوف يعتبر أن الحصة الأكبر ينبغي أن تلحق بالفريق الذي لا يزال يمتلك فكر التغيير وإرادة ممارسته. في حين أن الفرقاء الآخرين الذين هم الضحايا في معظمهم فهم المغلوبون على أمرهم دائماً ليس في تلقي المصاب فقط، بل في البحث العقيم عن حلوله..

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى