صفحات الرأي

القضية الكردية هي أيضاً قضية عربية/ جمال الأتاسي

 

 

القومية عندما تأخذ بها النزعة للشوفينية، لا تعود تنظر إلا بهذا المقياس للقوميات الأخرى، أي من خلال عصبيتها وتعصبها. والدولة القومية التي يقوم نظام حكمها على الاستغلال والتمايز الطبقي أو الفئوي، هي التي تنحو نحو استغلال الشعوب الأخرى واضطهادها. والنظم التي تقوم على التسلط والاستبداد، فهي بمقدار ما تضطهد شعبها ذاته وتفرض عليه هيمنة سلطاتها وتستخف بإراداته الوطنية الحرة، تضطهد أيضاً الأقليات القومية أو الشعوب القومية الأخرى المقيمة على أرضها أو على تخومها وتعمل لبسط السيطرة عليها وتستخف بحقها في تقرير المصير.

إن هناك نقطة مبدئية أعتقد أنني ملتق فيها مع مؤلف هذا الكتاب، من حيث منظورنا القومي الديمقراطي بل والاشتراكي أيضاً. فبمقدار ما نقترب من المفهوم الديمقراطي للوطن والمواطنة والسيادة الحرة للشعب في بناء نظمنا الوطنية وفي إنجاز مهمات تحقيق وحدتنا العربية، فإن مسألة الجماعات القومية غير العربية المقيمة في هذه المنطقة أو تلك من وطننا العربي، والتي لم تندمج بنا في الماضي وتحرص على وجودها القومي الخاص وخصوصيتها، لا بدّ أن تطرح نفسها علينا من خلال ذات المعايير الديمقراطية والإنسانية التي توجه مسارنا، ولا بدّ أن نقف منها الموقف الذي أردنا في تحررنا القومي، أي أن تكون لها إرادتها الوطنية الحرة وحقها في تقرير المصير.

كذلك، بمقدار ما نقترب من التطبيق الاشتراكي كصيغة في البناء الاجتماعي والاقتصادي لدولنا الوطنية أو لدولتنا القومية الموحدة، وكموجه للعلاقات بين القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، والعلاقات بين المواطنين والدولة الناظمة لتلك العلاقات، أي بمقدار ما ينزل حكم الطبقة المستغلة والفئة المتسلطة وحكم الأسرة والعشيرة والفرد، ليقوم حكم الشعب والمصلحة العامة للشعب بالاحتكام لحاجاته الأساسية، أي بمقدار ما نقترب من المساواة بين المواطنين وتذويب الفوارق بين الطبقات ومن العدالة الاجتماعية، فإننا نقترب إلى صيغة سليمة وعادلة في العلاقات بين الشعوب والقوميات، وفي التقريب فيما بينها وإزالة أسباب تصادم مصالحها وأهدافها.

فلا بدّ أن تكون مثل هذه التوجهات واضحة، لا في مقولات أحزابنا القومية العربية والشعارات التي ترفعها فحسب، وإنما في ممارساتها والمواقف الفعلية التي تتخذها لكي نصل إلى إزالة أسباب التصادم، وإلى إيجاد صيغة للتعاون بل والتحالف الاستراتيجي أيضاً بين حركة التحرر العربي الوحدوية، وبين الحركة الوطنية التحررية الكردية، ولكي نصل من ذلك إلى الحلول المرحلية المناسبة للوجود القومي الكردي داخل الحدود المتعارف عليها دولياً لقطر عربي واحد بالتحديد أو لأكثر من قطر، ومن خلال منظور مستقبلي له ملامحه العامة الواضحة، بحيث لا يعترض سبيل برنامجنا القومي الوحدوي، ولا يقطع طريق التطلعات القومية الكردية، والتي لا تقف عند حدودنا العربية بل تتعداها في كثير إلى دول مجاورة وقوميات مختلفة. ومثل هذا التوجه يمكن أن يقدم حلاً أو طريقاً لحل، لا للمسألة الكردية في العراق وحده بل وللمطالب الوطنية والاستقلالية لمجموعات قومية أخرى كما هي الحالة بالنسبة لسكان جنوبي السودان. فالحركة القومية العربية حين تتركز مقوماتها الديمقراطية والإنسانية والتقدمية، وحين تسير كما سارت أيام النهوض الناصري في نهج قاطع ضد الإمبريالية وضد كل أشكال السيطرة أو الهيمنة لشعب على غيره، ولدولة أو كتلة دول على غيرها، فإنها لا تقبل لنفسها ولا تريد بأية حال أن تفرض سيطرتها ولا الدمج والاندماج، على أي شعب آخر أو أية أقلية قومية تعيش في حيثياتها.

لقد أردت أن نبدأ بأنفسنا كعرب وأن نحاسب ونطالب أحزابنا ونظمنا، قبل أن نحاسب ونطالب الأطراف القومية المقابلة، وأن نراجع مواقفنا وممارساتنا بل وأفكارنا أيضاً بهذا الشأن، وأن نحدد أهدافنا القومية والمسار الذي نتبعه لتحقيقها، قبل أن نحاصر الطرف الآخر ونسائله. ولعلنا بذلك نستطيع تضييق أسباب الافتراق والخلاف ونقطع طريق التناحر والاقتتال، ولعل الوضوح الذي نعطيه لاتجاهنا القومي يساعده على أن يكون هو أيضاً موحداً في اتجاهه وواضحاً. ولكن من المطلوب أيضاً من الطرف الآخر أن يراجع مساره وأن يحدد هو أيضاً أهدافه والمراحل التي يمكن أن يمر بها للوصول إليها والوسائل التي يتبعها لبلوغها. وإذا ما أشرنا إلى الأخطاء التي وقعت أو تقع فيها نظم أو قوى قومية عربية، فإن الحركات الوطنية الكردية وقعت في أخطاء وانقسامات أفدح، وسارت في مسالك متعثرة، ومرت بتجارب قاتلة، وخضع الكثير منها لقيادات عشائرية متعصبة ومتخلفة، وذهب بعضها إلى التفتيش عن مساندات له وتحالفات مع قوى خارجية معادية لحركات التحرر الوطني للشعوب.

ويبقى أمامنا الواقع الراهن بوزنه الثقيل، ولا نملك في تعاطفنا مع قضايا تحرر الشعوب، ومع قضية تحرر شعبنا العربي ذاته وما يفرض عليه من تجزئة وانقسام وتابعية، وفي تعاطفنا مع المسألة الكردية كقضية من قضايا تحرر الشعوب، إلا أن نحاول فهم هذه المسألة والتعرف إلى حدودها، وإعطاء وضوح لتطلعاتها وإمكاناتها. والحق أن المسألة القومية الكردية هي واحدة من المسائل المعقدة في العالم، فهي تتناول من ناحية الحقوق القومية لشعب متواجد كأقليات قومية موزعة في خمس دول متاخمة لبعضها وبينها حدود دولية فاصلة، وهي في الوقت ذاته تحمل تطلعات شعب يطمح إلى أن يكون أمة بين الأمم وأن يكون له كيانه القومي المستقل بين الكيانات القومية في العالم.

قضيته محاصرة بواقعه كشعب شاءت الظروف التاريخية والتحالفات الدولية أن تضعه هكذا موزعاً بين عدد من أقطار الدنيا، بل إن كردستان الأصلية والتي يحددها مؤلف هذا الكتاب في حدودها الجغرافية كأرض وطنية لهذا الشعب، وأياً ما ضيقت عليه هذه الأرض، فإنها تبقى محسومة في التحديات الإقليمية وفي الترتيبات الدولية، أراض واقعة داخل أطر دول مستقل بعضها عن بعض. فقضيته مازالت إذن أسيرة التوازنات والنظام الدولي، كما هي أسيرة للتوازنات والنزاعات الإقليمية، فليس حلها كقضية قومية عامة مرتبطاً بالعراق وحده ولا بالعرب كلهم، إلا في حدود، وإلا كمرحلة على طريق طويلة لم تكتمل معالمها بعد إلا إن كان في تصور بعض من يملكون حساً تاريخياً ومنظوراً تاريخياً للتغيير في هذه المنطقة من العالم وفي العالم.

مقدّمة كتاب منذر الموصللي «عرب وأكراد: رؤية عربية للقضية الكردية»، 1985.

 

مسارات مثقف سوري

 

انتمى (1922 ـ 2000)، المفكر والمناضل والطبيب السوري، إلى العائلة الحمصية العريقة التي أعطت سوريا ثلاثة من رؤسائها، خلال فترات متعاقبة: هاشم، في ولايتين، 1936 و1949؛ ولؤي، 1963؛ ونور الدين، 1966. ومنذ سنوات دراسته في حمص، ثمّ في دمشق وجامعتها حيث تخرج طبيباً سنة 1947، انتمى الأتاسي إلى أنماط عديدة من النضال السياسي، ضدّ الفرنسيين، وضمن اتحاد الطلاب، والالتحاق بثورة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941، ثمّ المشاركة في تأسيس حزب البعث، فالتنسيق مع أكرم الحوراني لضخّ الحزب بتوجهات يسارية وطبقية، مقابل العقيدة القومية التي حملها ميشيل عفلق وصلاح البيطار. وفي فرنسا، حيث تخصص في الطبّ النفسي، تعرّف الأتاسي على الماركسية (بصفة عامة، ولكن من خــــلال جــان ـ بول سارتر أيضاً)، وعلى تيارات التفـــكير العالمثالثية (ولسوف يكون له الفضل، صحبة سامي الدروبي، في ترجمة كتاب فرانز فانون «معذبو الأرض» إلى العربية).

الأرجح أنّ هذه الحصيلة الفكرية، فضلاً عن مزاجه القومي والعروبي المتأصل، هي التي قادت الأتاسي إلى القطع مع حزب البعث، بعد أن كان قد انتُخب عضواً في القيادة القطرية المؤقتة والمكتب السياسي، حتى عام 1958؛ كما تولى حقيبة الإعلام في وزارة صلاح البيطار، وكانت الأولى بعد انقلاب 1963.

وهكذا، كان أحد المشاركين في المؤتمر التأسيسي لحزب «الاتحاد الاشتراكي العربي»، ذي التوجهات الناصرية؛ فتدرّج في قيادة هذا الحزب حتى انتُخب أميناً عاماً له، سنة 1968. اعتُقل فترة قصيرة، أواخر الستينيات، وأفرج عنه حافظ الأسد بعد انقلاب 1970، فاتخذ موقفاً مؤيداً للنظام الجديد، وشارك في «الجبهة الوطنية التقدمية» وصار عضواً في القيادة المركزية لها، قبل أن يختلف مع الأسد ويلتحق بصفوف المعارضة، فيؤسس ـ مع عدد من الأحزاب اليسارية المعارضة ـ «التجمع الوطني الديمقراطي»، فيتولى أمانته العامة، حتى وفاته.

والحال أنّ مؤلفات الأتاسي أشبه بمرآة عاكسة للتيارات التي تناهبت فكره على امتداد ستة عقود: «حول القومية والاشتراكية»، 1957، بالاشتراك مع ثلاثة من قادة حزب البعث: ميشيل عفلق وأكرم الحوراني ومنيف الرزاز؛ «في الفكر السياسي»، 1963، مع اثنين من وجوه اليسار السوري: ياسين الحافظ والياس مرقص؛ «إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبدالناصر وعلى فكره الإستراتيجي والتاريخي»، 1981؛ «النظام العالمي الجديد»، 1991. وهذه حال ترجماته أيضاً: «تفكير كارل ماركس: نقد الدين والفلسفة»، جان ايف كالفيز؛ «المذهب المادي والثورة»، جان ـ بول سارتر؛ و «مدخل إلى علم السياسة»، موريس دوفرجيه؛ والأعمال الثلاثة هذه بترجمة مشتركة مع سامي الدروبي.

مسارات الأتاسي كانت، إلى هذا، بمثابة مصائر مشتركة جمعت جيلاً من المثقفين السوريين المناضلين؛ حلموا بآمال كبرى، وعملوا على ترجمتها في صياغات سياسية وتنظيمية شتى، فنجحوا تارة وأخفقوا طوراً؛ الأمر الذي يعود تثمين حصيلته النهائية إلى التاريخ، في الحاضر كما في المستقبل.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى