صفحات الرأي

المثقف الديني… شواهد ثورية في طريق المفهوم/ سعد الحاج بن جخدل

 

 

لقد شغل مفهوم المثقف العديد من الدراسات السوسيومعرفية، فهو منذ أن عُرِّف من طرف المفكر الايطالي أنطونيو غرامشي (1891/1937) مازال محط نقاش وتصريف، ويظل المثقف (بالمعنى الأخلاقي للكلمة الذي ينصرف إلى مجموعة القيم والمبادئ التي يجسدها كل من يطلق على نفسه مثل هذا اللقب)- بمثابة (ترمومتر) نجاح الثورات أو انتكاسها. فالمثقف الحقيقي كما يعرّفه إدوارد سعيد في كتابه «المثقف والسلطة»، هو «ذلك الشخص الذي يمثل صوت من لا صوت لهم، ويجسد قيمهم ويتمسك بها من دون مساومة أو تفريط» (إدوارد، 2006). لذا فالمثقف، حسب إدوارد يجب أن يكون بعيداً عن السلطة في أشكالها كافة حتى لا تقيد تفكيره أو تحد من مسار أفكاره أو توجهها، وفق مصالحها ورغباتها. ولا يخلو تاريخ الثورات، خصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين من دور مهم لعبه المثقفون أو (الأنتليجنسيا)، سواء في إشعال الثورات أو تغيير مجتمعاتهم ونمط تفكيرهم بعد الثورات، مثلما كانت عليه الحال في الثورة الفرنسية عام 1789 والروسية عام 1917 والصينية عام 1949، وهو أمر لم تخلُ منه أيضاً ثورات العالم الثالث التي وسمت القرن العشرين، حيث لعبت النخبة المثقفة دوراً مهماً في ثورات المكسيك عام 1910 وكوبا عام 1959 وإيران ونيكاراغوا عام 1979 وذلك في تجسيد حي وتطبيقي لمفهوم أنطونيو غرامشي عن (المثقف العضوي) (العناني، 2014)

إذن فقد ارتبط مفهوم المثقف بالدلالات الثورية والانتقادية، فاستوى بذلك شبه إجماع على تسمية هذا النوع من المثقفين بــ(المثقف العضوي) وبعيدا عن التعريف المكثف الذي قدمه غرامشي للمثقف العضوي بأنه: ذلك الذي يملك المعرفة بضاعة والتفكير أداة والفعل الاجتماعي انعكاسا.. بعيدا عنه نورد تعريفا للمفكر المغربي (محمد نور الدين أفاية) الذي يصف فيه المثقف العضوي بأنه: «الشخص الذي يكتب، ويبدع، ويفعل وقد نعطي للفظة الفعل ما نريد، وهو صفة. كما أن للمثقف أدوارا تربوية (في التكوين، والشرح، والتوجيه) وفكرية (تقديم الفهم المناسب للأحداث وإنتاج المعنى والتنوير) وسياسية (من حيث مساهمته في توسيع دائرة الحريات، ودمقرطة الدولة والمجتمع..) واجتماعية أخلاقية (للدفاع عن مبادئ العدالة والمساواة وعن الأدوار التوعوية للمرأة والشباب في المجتمع، وحقوق الإنسان، وتشجيع المقاربات التشاركية..) وأن يقوم بهذه الأدوار بشكل متفاوت بحسب استعداد واقتدار كل فرد على حدة، ومن زوايا كون المثقف مواطنا مشاركا في الحياة العامة». (أفاية وآخرون، 2013)

وكقراءة تحليلية في المفهوم التفصيلي الذي قدمه (أفاية) يمكن اعتبار المثقف حاملاً لمعارف متعددة مختلفة، وألا يكون هذا التملك بمعزل عن قضايا المجتمع العامة، بل يجب أن يمتاز باعتماده على الواقع وكذا العقل بما لهما من دور تكويني، وقد تضاف إليهما مصادر معرفية أخرى كتلك المستمدة من الوحي أو النص، بوصفه عاملا معرفيا تفرضه سلطة الواقع المجتمعي قبل السلطة السماوية. فالثقافة بهذا المعنى ظاهرة واسعة التحقق في عالمنا اليوم، سواء نتج ذلك عن الدراسات الأكاديمية مباشرة أو بفعل الجهود الذاتية للأفراد. لكن المهم هو ألا تنحصر المعرفة بحدود التخصص، بل تمتد إلى التحكم في الأدوات العقلية المؤدية إلى إنتاجها مع السعي إلى ممارسة تطبيقاتها الاجتماعية والسياسية.

على هذا فإن اكتساب المثقف لصفاته المميزة يرتبط ارتباطا أساسيا بخصوصية المجتمع الذي يعيش ضمنه، باعتباره كائناً معرفياً فاعلاً يمكنه أن يؤثر على حركة الوسط الذي يتفاعل معه بما يبتكره من أفكار وما يقدمه من معارف، ومن ثم بما يساهم به في صنع الرأي العام باعتباره يوجه خطابه إلى الجمهور.

وبحكم أن المجتمع العربي بجناحيه المشرقي والمغاربي هو مجتمع ديني فقد غدا المثقف فيه مشدودا إلى وتد الواقع المعرفي الديني لشعوبه، فهذا الارتباط من شأنه أن يجعل المثقف في تواصل مع القضايا المجتمعية وفق فقه ديني؛ على أن هناك درجات متفاوتة من ارتباط المثقفين بما هو ديني. وطرفا هذه الدرجات هما مثقفان الأول يتخذ من الدين مرجعية عكسية معتبرا الدين سبب كل بلاء، بينما يسكن الثاني على ضفة أصولية قصية يريد فيها الرجوع بالمجتمع إلى العصر الأول من الإسلام، ومن حيث المضمون الفكري للمثقفين يلاحظ أنهم ينقسمون في مجتمعنا إلى تيارين رئيسيين واسعين، أحدهما يلتزم بمبدأ الدين ويعمل على حمل المشروع الديني ويطلق عليه المثقف الديني أو الإسلامي. والآخر على خلافه ليس له علاقة بالمشروع الديني، إسلاميا كان أو غيره، ويطلق عليه العلماني. فالفارق بين التيارين يتحدد بحسب الموقف من الدين كمشروع يراد له التطبيق على العلاقات الاجتماعية.

فمن هو (المثقف الديني)؟

هو مثقف لأنه يعتمد في تفكيره على العقل المستقل عن الوحي، وهو ديني لأنه يهتم بعلاقته الروحية مع الله، لكن إيمانه نابعٌ من إرادة حرة وقائمٌ على البحث والتحقيق المستمرين. فتديُّن المثقف لا يستند إلى التقليد والتلقين، ولا يخضع لضغوط الإرث الاجتماعي، ولا يقوم على الجبر أو الإكراه، ولا على العاطفة، ولا على العادات والتقاليد، ولا على المصالح الدنيوية، ولا على الخوف من السلطات الاجتماعية، كالأسرة والأصدقاء وجماعات الضغط الدينية والسياسية (فاخر سلطان، 2007).

هو إذن مثقف حر مقيد، حر الإرادة مقيد المرجعية، يمتلك المعرفة الدينية كاختصاص مع الرغبة والشجاعة في الانتقاد والإصلاح (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو بهذا يشتمل على تيار عريض من المتدينين بدءا من علماء الدين ذوي الآراء الاجتماعية والسياسية المؤسسة وانتهاء بالأئمة والدعاة المحليين الذين يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صوره الواسعة التي تمس الواقع السياسي والاجتماعي..

وهناك من يربط تعريف المثقف الديني بشرط التجديد ويقصى بذلك طيفا عريضا من الأصوليين، انطلاقا من كونه فردا حداثيا غير منقطع عن التدين؛ أي أنه ينتمي إلى مدرسة فكرية لها علاقة طبيعية واضحة، بل ومميَّزة، مع الحداثة ومع العقلانية، ويسعى أيضًا إلى علاقة إيمانية خاصة مع الباري جلَّ وعلا، استنادًا إلى التجارب الروحية التي خاضها الأنبياءُ في حياتهم. وهو يرفض كذلك أن يضحِّي بجانب على حساب الجانب الآخر: فمثلما أن لجانب الإيمان والتدين أهميةً في الحياة، كذلك فإن الجانب الحداثي والعقلاني لا يقل أهمية في نظره عن الجانب الأول. فهو شخص يعتقد أنه يمكن في زماننا الحديث إنتاج فهم جديد لما جاء به الوحي الإلهي (القديم)، وأن ذلك الفهم (الكلام) بمثابة نبع جارٍ باستمرار، غير قابل للنضوب أو التوقف، يغذي الإيمان ويتعايش مع الحداثة (فاخر سلطان، 2007).

إن الأكيد أن تديُّن المثقف لا يستند إلى التقليد والتلقين، إنه يتبنَّى حياة تتوازن فيها العقلانية والتجربة الإيمانية الروحية؛ إذن هو يجمع العقلانية والإيمان معًا. إنه يعيش في إطار هوية تتسم بالواقعية وبالتغيير والتجديد باستمرار؛ وهي عناصر مهمة في دعم العقلانية وفي عملية البحث عن الحقيقة الدينية وفي محاربة الخرافات الدينية (وغير الدينية)، وكذلك في تثبيت الإيمان.

ويمكن هنا أن نتخلى عن مصطلح المثقف الديني مؤقتا للرجوع إلى نظير لغوي يقاربه في السياق الدلالي ويخالفه في البناء اللغوي ألا وهو مصطلح (الأبدال) الذي يعرفه لسان العرب بأنه تعبير عن «قوم صالحين بهم يقيم الله الأرض، لا يموت منهم أحد إلا قام مقامه آخر، فلذلك سموا أبدالا، وقال ابن السكيت: سمي المبرزون في الصلاح أبدالا لأنهم أبدلوا من السلف الصالح» (ابن منظور، 2008)، وأورد (المناوي) في «شرح الجامع الصغير» عن علي بن ابي طالب «رضي الله عنه» أنهم «لم يسبقوا الناس بكثرة صلاة ولا صوم ولا تسبيح ولكن بحسن الخُلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر… (المناوي، ج1، 2008) وفي «تنبيه المغتربين» للشعراني عن النبي (ص): إنهم لم يدخلوا الجنة بكثرة صوم ولا صلاة وإنما دخلوها بسخاوة النفوس والنصح للأمة». (اللامي، 2011)

وبالانتقال من الاقتراب التاريخي إلى نظيره المنهجي يعتمد المثقف الديني على المنهج البياني الذي ينتمي إليه الفقيه ومن على شاكلته، حيث الميل إلى جعل التكوين المعرفي منحصراً بالنص؛ على شاكلة ما يقوله الإمام ابن حنبل: «إنما أُمرنا أن نأخذ العلم من فوق»، أو ما يقوله أستاذه الشافعي: «العلم طبقات شتى.. ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى». لهذا وجد المثقف الديني نفسه – منذ بداية ظهوره – معنياً بحل هذه القطيعة عبر عملية التوفيق التي نهجها؛ مخالفاً بذلك كلا النزعتين المتشددتين. فهو يتقبل من جانب النتاج العلمي والسلوك المنهجي الذي يتبعه العلماء في الكشف عن أسرار الواقع وخفاياه؛ خلافاً لما عليه المسلك البياني التقليدي، لكنه من جانب آخر حريص على التمسك بالمبادئ والقيم التي جاء بها النص، مما جعله يختلف تماماً عن النهج الذي عليه المثقف العلمي. (يحيى محمد 2012).

وعلى جانب من هذه الرؤية المتوازنة يقذف البعض بتعريف المثقف الديني بعيدا عن كل ما هو أصولي ثابت ويوقفونه عند حدود التجديد من أجل التجديد. مطالبين بأن يطال تجديد المثقف الديني الأصول: «علم الكلام وعلم الأخلاق؛ كما ينبغي أن تتم إعادة النظر في مفاهيم أساسية في الدين، كالتوحيد والنبوة والوحي والمعاد، وصولاً إلى التعايش مع الحداثة ومفاهيمها». فإلغاء حدٍّ أو حكم شرعي أو وقفه حسبهم ليس سوى اجتهاد في فروع الدين من أجل أن يتماشى ذلك مع شكل الحياة الجديد، في حين أن المطلوب هو تعديل الأساس الذي تقف عليه تلك الفروع: كأن يتغير، مثلاً، الفهم الديني القديم المتعلق بحقوق الباري مقارنةً بحقوق الإنسان، بحيث يصبح احترام حقوق الإنسان هو المؤسِّس لاحترام حقوق الله عزَّ وجل (فاخر سلطان، 2007). ورغم أن هذا التعريف لا يعكس حقيقة المثقف الديني إلا أنه أسس لظهور بعض الحركات الممارسة لهذا المفهوم، التي أسست عليه وجهة نظرها في ما بعد في الحراك الثوري المضاد أو الانقلابي الذي ساد أوطانا بعينها، وحتى كان مبررا للقتل تحت طائلة تبرير الغاية للوسيلة. وبهذا يلتبس تعريف المثقف بكل ما هو ديني وينقسم على نفسه بين ما هو أصولي وتجديدي، وفي الحديث ذاته يرتبط تعريف المثقف الديني بطريقة أو بأخرى بتعريف المثقف العضوي، انطلاقا من كون التعريفين يحرضان على الانتقاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع فارق المرجعية التي تعتبر عند الديني هي الدين في حد ذاته. وكممارسة إجرائية يمكن أن نعرّف المثقف الديني بأنه ذلك الفرد: «الذي أحاط بأصول الدين وانفتح على التجديد فيه، واستعمله لمخاطبة مجتمعه وأداء النصح له في مختلف شؤون حياته، اجتماعية كانت أم سياسية، وهو يشتمل على طيف عريض من المفكرين والعلماء والدعاة والمصلحين والفقهاء»

كاتب جزائري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى