صفحات الرأي

المُثــقَّف السّلَفِــيّ/ صلاح بوسريف

 

 

كانتِ السَّلَفِيةُ، في ما مَضَى، مَوْقِفاً فِكْرِياً، ودَعْوَةَ إلى تَبَنِّي الدِّين، في زَمَنٍ دون آخَر، وكانتْ في رُؤْيَتِها، وفي طبيعتِها، تَوَجُّهاً إلى الماضِي، لِبِناء الحاضرِ، أو لإعادة تصحيح وتَقْوِيمِ هذا الحاضِر، الذي ترَكَ وراءَهُ الحَلَّ لِمُعْضِلاتِ الأُمَّة، وما أصْبَحَتْ تعيشُ فيه من احْتِلال وتخلُّفٍ وإذْلال.

فالعَوْدَة بالدِّين إلى «ما قَبْل الخِلاف»، كان بَحْثاً عن «الصَّفاء»، كما تَصَوَّرَهُ هذا السَّلَفِيّ، وكان يَرَى في مواجَهَة الاسْتِبداد والطُّغْيانِ، أحْدَ مهامّ العُلَماء ورِجال الدِّين، أو المُثَقَّفِين، رغم أنَّ هذه الصِّيغَة لَم تَكُن وارِدَةً عندَه، وهو ما كان كَتَبَ في شأنه الكَواكبِيّ كِتابَه «طبائع الاستبداد»، وكانت في التّربية والتَّعليم، كما عند محمد عبده، أحْدَ هذه المَهام الأساسية والضَّرُورية، في بناء الإنْسانِ، وفي العَوْدَة بالدِّين إلى ينابيعِه الأولى، قبل أنْ يَحْدُثَ التَّطاحُن، وإعْمال السَّيْف في احْتِلال السُّلْطَة، والاسْتِفراد بها، أو ما سَمَّاه طه حسين بـ«الفِتْنَة الكُبْرَى».

هذا المُثَقَّف السَّلَفيّ، كان، وفق ما كُنْتُ سَمَّيْتُه به من قَبْل، مُثقَّفاً مُتَنوِّراً، رَغْم اخْتِلافِنا معَه في ارْتِباطِه بماضٍ دُون ماضٍ، ورغم اخْتِلافِنا معه في رُؤيَتِه للإصلاح، ولمفهوم الصَّفاء الدِّيني، الذي رَبَطَه بما قبل وُقُوع «الخِلاف»، وحُدُوث «الفِتنة». فهو كان يعتبر القَلَم، هو الوسيلَة النَّاجِعَةَ في مُواجَهَة ما يجري. ولعلَّ في إصْدار محمد عبده، رفْقَة عبد الرحمن الكواكِبِيّ لجريدة «العُرْوَة الوُثْقَى»، ما يَشِي بهذا الوَعْيِ عند هذا السَّلَفِي، الذي لَمْ يَكُن عَنِيفاً، ولا مُتَشَنِّجاً، ولا شَخْصاً يَدْعُو لَقَتْل غيره، ممن يراهُم غير دَاخِلِين مَعَه في الفِكْر نفسه، ولا في العَقْل نفسه الذي بِه يَعْمَل.

وَاجَه سَلَفِيُّو «ما قبل الخِلاف» الاستعمار والاسْتِبداد، وكانوا يَعْمَلُون من داخِل الجامِعاتِ الدِّينيَة، والمُؤسَّسات التعليمية التي عَمِلُوا فيها، أعْلَنُوا عن مواقِفِهِم في كتاباتِهِم، في المقالاتِ والكُتُب، واسْتَطَعُوا أن يَفْرِضُوا وُجُودَهَم باعتبارهم أصْحاب دَعْوَة فكرية وأيديولوجية، تتبَنَّى مَفْهُوما للإسلام، لا يُلْغِي غيره من الدِّياناتِ أو يعمل على اجْتِثَاتِها، أو سَبْيِ أو اسْتِعْبادِ من لا صِلَة لهم بالإسلام، أو حتَّى تغريم هؤلاء مالاً، بدعوى ما كان سارِياً أيَّام الفَتْح الإسلامي، ولَمْ ينْظُروا لِغَيْر المُسْلِم المُقِيم في أرْضِ الإسلام، بتَمْييزِهِ، أو حَشْرِه في زاوِيَة الذِّمِّييِّن، أو غيرهم، مِمَّن ستعُود «السَّلَفِيات العَمْياء» لِمُمارَسَتِه في وَقْتِنا الرَّاهِن، أو كما جَرَى في فتراتٍ من تاريخ الإسلام قبل اليوم.

هذا المُثَقَّف، الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القَرْن العشرين، كان مُعَلِّماً، ومُرَبِّيا، وصاحِبَ رِسالَة، يعيش في المدينَة، يُقْبِل على الحياةِ، ويتعلَّم اللُّغاتِ الأخْرَى، لِمَعْرِفَة وفَهْم فِكْر «الآخر» الذي هو الغَرْب، ومُجابَهَتِه، بالبَراهِين والحُجَج، التي رأَى هذا السَّلفِيّ، أنَّها كفيلَة بإقناع هذا «الآخر» غير المسلم، بما في الإسلام من سَماحَةٍ وتَفاهُم، وما فيه من إيمانٍ بالاخْتِلاف والتَّجاوُر. عدَدٌ من الكُتَّابِ والمُفَكِّرِين، أو المُثَقَّفِين الليبراليين، الذين أَتَوْا في ما بعد، من مثل طه حسين، وغيره، دَرَسُوا على يَدِ بعض هؤلاء، وظَلُّوا يُقَدِّرُونَهُم، ويُكِنُّون لَهُم الاحترام، بل إنَّهُم تأثَّروا بِهِم في بعض مَناحِي تَفْكِيرِهم، واسْتَشْهَدُوا بهم، رغم مواطِن الاختلاف الواضِحَة بين هؤلاء وأولئك.

فَفِكْر هذه السلفية المُتَنَوِّرَة، خَرَج من مصر وبلاد الشَّام، لِيَنْتَشِر في البلاد العربية والإسلامية، ولِيَجِدَ له أتْباعاً في المغرب والجزائر وتونس وليبيا، ولتُصْبِح ثقافَة السَّلفِية، هي ثقافة إصْلاحٍ، وإعادة بِناء وبَعْثٍ لِما ضاع وتلاشَى في غَمْرَة التهَافُت على السُّلْطَة، مهما يَكُن الوازِع أو الدَّافِع، ومهما تَكُن طبيعَة الشُّرُوخ والتَّصَدّعات التي حَدَثَت جرَّاء هذا التَّهافُت، الذي زاد من احْتِقانِ الدِّين من داخِلِه، وَوُجُود أسبابِ انْشِقاقِه في بَيْتِه نَفْسِه، الذي أَصْبَح مثل قارِبٍ يقُودُه أكْثَر من نُوتِيٍّ، في أكْثَر من اتجاهٍ، رغم أنَّ المَوْجَ كانَ عاتِياً.

الوَضْع، بهذه الصُّورَة، يَكْفِي لِيَضَعَنا أمامَ أنْفُسِنا، في فَهْم بعض ما جَرَى اليوم، لِيَصِير الأمْر، بهذا الانْشِقاق والاهْتِزاز، أو التَّزَلْزُل الذي نعيشُه في واقِعِنا، الذي أصْبَحَتْ أكْثَر من يَدٍ تَعْبَثُ فيه، وأصْبَح فيه الملعبُ مَفْتُوحاً على كل احْتِمالاتِ الخساراتِ، من دون احْتِمالاتِ الرِّبْح، التي باتَتْ ضَعِيفَة، أو شِبْه مُنْعَدِمَة من قِبَل هذا الطَّرَف أو ذَاك. فسَلَفِيُّ بداياتِ القرْن العشرين، كان مُثَقَّفاً، مُؤْمِناً بالدَّوْر الذي يَلْعَبُه، وله رِسالَة، كان حريصاً على تَبْلِيغِها، والدِّينُ عندَه لَمْ يَكُنْ حُجَّةً في تَمْييز نفسه عن الآخَرِين، أو اعْتِبارهم أعْداء لهُ، فَهو كان عَدُوّاً لابْتِذال الدِّينِ في سَطْحِيَتِه، وفي ما لَحِقَه من تَبْدِيلٍ وتزْوِيرٍ في القراءة والتأويل، رَغْمَ أنَّ هذ السَّلَفِيَ، هو الآخر، كان لَهُ تأوِيلُه للدِّين، كما أنَّه كان ضِدَّ «الزَّوايا» و«الطُّرُقًيَة»، وضِدَّ الشَّعْوَذَة والخُرافَة،وإلْغاء العَقْل، في مُقابِل كُلِّ أشكال التقديس التي تَخْرُج عن الذَّاتِ الإلهيةِ.

المُثَقَّف اليوم، إذا عَمَّمْنا التَّسْمِيَة، وشَمِلْنا بها كُلّ من يَكتُب ويقرأ، ويعمل في حَقْل من حُقول الثَّقافة والمعرفة، أو غيرهم، مِمَّن يُنْتِجُون الرُّموز والدَّلالاتِ، هو اليوم، أكْثَر غُمُوضاً والْتِباساً في صُورَتِه، أو في صُوَرِهِ، إذا ما أنا اسْتَعَرْتُ هذا التَّعْبِير من جُولْيان بُونْدا، الذي كان اتَّهَم المُثَقَّفِين بالخِيانَة. وقَدْ حَرِصْتُ في كتاب «المثقف المغربي بين رهانات المعرفة ورهانات السُّلطَة»، على إظهارِ كثيرٍ من هذه الصُّوَر، أو الوُجُوه وكَشْفِها، لأنَّ المثقف اليوم، تَكيَّفَ، بطريقَتِه البهلَوانِيَة الخاصَّة، مع هذا الوَضْع الطَّارِئ، وباتَ يعرف كيْف يَلْبِسُ قُمْصانَه، ومَتَى يُغَيِّرُها، أو يُغَيِّر ألوانَها.

لا يعْنِيني المُثَقَّف «الفقيه» أو «الدَّاعِيَة» أو «مثقف الحزب» أو «السلطة»، أو من تُطْلِق عليه القنوات الفضائية صِفَة «الخَبِير!».. الذي يَعْنِينِي هُنا، هو المُثقَّف اليساري، من أيِّ يَسارٍ كانَ، هذا المُثقَّف الذي كان بالأمس القريب، صاحِبَ مَشْرُوع، وصاحِبَ فِكْر ونَظَر، لا يتنازَل عن أفْكاره بإفراطٍ، ولا يقبل أن يُغَيِّر قُمصانَه حَسَب الحاجَة، بل إنَّه كان يَخُوض معارِكَه باستِماتَةٍ، ولا يفتأ يُعَرِّض نفسَه إلى الخَطَر، وما كان السَّلَفِيّ نفسُه تَعرَّض له من طَرْدٍ ونَفْيٍ وتَشْرِيدٍ، من دُون أن يتخَلَّى عن فِكْرِه، أو يَنْقَلِب عليه، لِمُجرَّد أنَّه دَخَل «حَظِيرَة» السّلْطَة، أو أصْبَح صاحِبَ عَصا.

يَسارِيُونَ انْقَلَبُوا على اليَسارِ، رَوَّضَتْهُم السُّلْطَة على جَزَرِها، هُم، اليوم، صامِتُون، لا يتكَلَّمُون، ابْتَلَعُوا ألْسِنَتَهُم، وحتَّى إذا أخْرَجُوها، فَهُم يُخْرِجُونَها لِتَبْرِير الاستبداد، ولتبرير الفَسادِ، ولِتَبْرير طبيعَة الانْقلاب الذي قامُوا به ضِدَّ أنْفُسِهم، وضِدَّ فِكْرِهم، الوزير مثل المُسْتشار، مثل العامِل في ديوان الوزير، مثل السَّفِير، مثل من يحْتلُّون مؤسَّسات الثَّقافَة والإعلام، مثل الفُقهاء ورجال الدِّين. داخِلَ هذه الشَّرْنَقَة، أو بالأحْرَى، داخِلَ نَسِيج العنكبُوتِ هذا سَقَط المثقف اليَساري، ارْتَدَّ حتَّى على يسارِيَتِه، التي باتَتْ تَبْدُو له ضَرْباً من العَبث، لأنَّ التَّغْيير بالنِّسْبَة له، يجب أن يكون من الدَّاخِل، رَغْم أنَّ التَّجارب، فَضَحَتْ هذا الادِّعاء، وكَشَفَتْ بُطْلانَه بالمَلَمُوس. فَكُل الذين كانوُا في الدَّاخِل من هؤلاء، هُم مَنْ تَغَيَّرُوا، وليست السّلْطَة، أو الدَّوْلة والنِّظام. فالتَّجْرِبَة أكَّدَتْ أنَّ السُّلَط والأنْظِمَة تبقى هي نفسُها، وأنَّ الدَّاخِل إلى بَيْتِها، هو مَنْ يتغَيَّر، ويَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ. هذا ما جرَى في تجربة «التَّناوُب» في المغرب، وما جرى في أكثر من بَلَد عربي.

ولعلَّ خَطَر هذا المثقف المُنْقَلِب على نفسه، هو ما يتبَنَّاهُ من أفْكارٍ لَيْسَتْ لَه، وليس هو مَنْ أعْمَل فيها نَظَرَهُ وبحثَ وتَقَصَّى لِيَصِل إلى ما وَصَل إليه، بل إنَّه تَحَوَّل إلى ناطِقٍ باسْم.. Porte parole، لِيَجِدَ نفسَه من دُون صَوْتٍ، فالصُّورَة تَكفِي!

مِنْ هؤلاء مَنْ باتَ يَضَعُ نفسَه ناطِقاً باسْم الدِّين، أو باسْم اللَّه، ويُسَفِّه زُملاءَهُ، مِمَّن اعْتَبَرَهُم مُسْتَشْرِقِين، أو مُتَأثِّرِين بالفِكْر الاسْتِشراقي، وادَّعَى بأنَّ هؤلاء لا يَفْهَمُون الإسلام، ولم يقرأوا القرآن، بل افْتَرَوْا عليه، لا فَرْق عنده، بين العروي، وأدونيس، والجابري، وأركون. وهذه، في تصوُّرِي، هي سَلَفِية ثقافية جديدة، شَرَعَتْ في الظُّهور، بنوع من السَّماجَة الفكرية التي لا مُبَرِّرَ لها، أو هي نوع من تَغْيِير القُمْصان، وتَغْيير الألوان، طَمَعا في العودة لمواقِع السُّلْطَة، من باب إبْداء حُسْن السِّيرة والسُّلوك. لهذا، فأنا، حين أَعْتَبِر سلفية «ما قبل الخِلاف»، سلفية مُتَنَوِّرَة، وأعتبر محمد عبده مُثقَّفاً مثله مثل الكواكبي، ورشيد رضا، وعلال الفاسي والمختار السُّوسِي، وابن باديس، وغيرهم، فأنا أرى في هؤلاء فِكْراً ينسجِم مع نفسِه، ومع سِياقاتِه، وهو مَبْنِيّ على مشروعٍ أسَّسَ له أصْحابَه بِقَناعاتٍ، وبأفْكار كرَّسُوا لها حياتَهُم، وظَلُّوا مُتَمَسِّكِين بها، إلى أن وَقَع تحريفُها بَعْدَهُم، بالصُّوَر التي بِتْنا نراها عند الإخوان المسلمين، وعند «القاعدة»، وعند «داعش»، وعند هذه الشَّرِيحة من مثقَّفِي اليسار، من «الفلاسِفَة» الذي ارْتَدُوا على الفلسفة نفسِها، وحوَّلُوها إلى فِكْرٍ من دون أفكار.

لَسْتُ ضِدَّ تغيير المواقف والأفكار، وتجديدها أو تَحْيينِها، فهذا من بديهيات السيرورة، ومن بديهيات الفكر اليَقِظ، والمُتَجدِّد، الذي لا يقبل البقاء في المفاهيم والرُّؤَى نفسها، بل أنا ضِدَّ انْجِراف المواقف والأفكار وانْحِرافِها، ضِدَّ صَمْت المُثقف اليساري إزاء فساد الدولة، وفساد المُؤسَّسات الثقافية والتعليمية، وإزاء الحرب على اللُّغَة، وعلى الحداثة والفِكْر التَّنْوِيري، وعلى حرية التعبير والرأي، وضِدَّ المثقف الذي يُقْصِي المثقف ويُلْغِيه، لِمُجرَّد أنَّ يَنْتَقِد، ويَحْتَج، ويَفْضَح، ولا يتوانَى في فَضْح الإمبراطُوراتِ، من المثقفين الذين باتُوا يَطْرُقون أبوابَ السلطة، كما يطرقُون أبواب المال والجاه، يَكْتُبون، لا بدافِع الحاجة للكتابة التي يقْتَضِيها الموقف، وتَقْتَضِيها الحاجة، فحاجَة هؤلاء، هي حاجَة واحِدَة فقط، سَعَوْا إليها، وَهُم في أرْذَل العُمْرِ، وفي أرْذَل صُوَر المثقف، وتَلَوُّنَاتِه.

٭ شاعر مغربي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى