صبحي حديديصفحات الرأي

بريماكوف: أسرار الأفاعي/ صبحي حديدي

 

 

عن 86 سنة رحل، قبل يومين، يفغيني ماكسيموفتش بريماكوف: الصحافي الروسي الذي بدأ حياته المهنية مراسلاً لصحيفة «برافدا» وإذاعة موسكو في الشرق الأوسط، خلال عقد الستينيات ومطلع السبعينيات؛ ثمّ المبعوث السرّي لمهامّ استخبارية وسياسية سوفييتية شتى، مدير «معهد دراسات الشرق الأوسط»، مدير «معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية»، أوّل رئيس لإدارة الاستخبارات الخارجية الروسية (الجهاز الذي ورث الـKGB)، وزير الخارجية، 1996 ـ 1998؛ رئيس الوزراء، 1998 ـ 1999؛ المرشح الرئاسي في انتخابات 2000، ورئيس غرفة الصناعة والتجارة في روسيا… أخيراً.

سجلّ حافل، لا ريب، على مستوى السطح المعلَن؛ وحافل أكثر، على مستوى الباطن، بما خفي وكان أعظم: إطلاق، وتطوير وإدارة، الحوارات السوفييتية ـ الإسرائيلية، ابتداءً من العام 1972، وحتى أواخر 1991، تاريخ إقامة العلاقات الديبلوماسية رسمياً، بين موسكو وتل أبيب. وحين اتخذ الرباعي الشهير في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي، ليونيد بريجنيف ويوري أندروبوف وأندريه غروميكو وألكسي كوسيغين، قرار فتح قناة سرّية مع إسرائيل، قفز اسم بريماكوف إلى الصدارة، فوقع الاختيار عليه دون تردد. وهكذا، أجرى الرجل لقاءات سرّية على أرفع المستويات، مع أمثال غولدا مائير، موشيه دايان، أبا إيبان، إيغال ألون، مناحيم بيغن، إسحق رابين، وشمعون بيريس، حول ملفات ساخنة تماماً، تبدأ من عرض وجهة نظره حول «رومانسية جورج حبش» و»براغماتية ياسر عرفات»، ولا تنتهي عند حرب 1967 والفوارق بين جمال عبد الناصر وأنور السادات. (المرء يُنصح، في هذا الصدد، بالعودة إلى المنبع: قراءة كتاب بريماكوف «روسيا والعرب: خلف الكواليس في الشرق الأوسط، من الحرب الباردة وحتى اليوم»، الذي صدر سنة 2009).

وخلال عقد السبعينيات، كانت المخابرات السوفييتية ـ على ذمّة «أرشيف متروخين» الشهير، الذي هرّبه المؤرشف السوفييتي فاسيلي متروخين عندما انشقّ إلى بريطانيا سنة 1992 ـ قد نجحت في تجنيد عدد كبير من العملاء داخل الطاقم المقرّب من حافظ الأسد، حملوا أسماء حركية مثل «عزت» و»حبر» و»شارلي» و»فارس» و»قريب» (لأنه كان أحد أقرباء الأسد)، فضلاً عن علاقة «شبه رسمية» مع رفعت الأسد، الذي حمل الاسم الحركي: «منذر». وثمة مؤشرات كثيرة تفيد بأنّ بريماكوف كان المهندس الأبرز خلف الاتصالات الشخصية التي أتاحت تجنيد هؤلاء، بسبب علاقاته الوطيدة مع الفئة العليا في هرم السلطة، والتي لم تبدأ مع انقلاب الأسد سنة 1970، بل مع انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966، حين أجرى الحوار الأوّل مع يوسف زعين، رئيس الوزراء يومذاك.

تحت الاسم الحركي «مكسيم»، كان بريماكوف رجل استخبارات سوفييتية من طراز خاصّ، ولم يكن دون أسباب وجيهة أنه تولى رئاسة أوّل جهاز استخبارات روسي، بعد انحلال الاتحاد السوفييتي. أمّا في العلانية، فقد استغلّ الرجل ما زعم أنه «معرفة عميقة» بشؤون الشرق الأوسط وشجونه، لكي يتكامل الظاهر مع الباطن، أو بالأحرى لكي يخدم الأوّل الثاني على أكمل وجه. وفي تجواله بين بيروت ودمشق وعمّان والقاهرة وبغداد، خلال عقد الستينيات وحتى مطلع السبعينيات، لم يكتفِ بريماكوف بالصلات الحكومية، بل صار مقرّباً من القيادات التقليدية في الأحزاب الشيوعية العربية، وأخذ يطرح على أمثال خالد بكداش وفهمي السلفيتي وعزيز محمد أسئلة مربكة حول العلاقة بين القومية والاشتراكية، وضرورة الاعتراف بحدود 1967 وليس 1948 في رسم الخريطة الفلسطينية، واتخاذ قرارات متشددة واستئصالية بحقّ القيادات والكوادر المجدِّدة ـ أو، في التوصيفات السوفييتية القدحية: «الانشقاقية» أو «التحريفية» أو «اليسراوية» ـ أمثال رياض الترك والياس مرقص وياسين الحافظ، لكي نقتبس أسماء من الحزب الشيوعي السوري التاريخي وحده.

لكنّ مآلات بريماكوف السياسية والفكرية، في أواخر عمره، أكدت أنه لم يعد مكترثاً حتى بالحفاظ على ذلك التوازن الخفي بين الظاهر والباطن؛ كما هي حال تنظيراته بصدد الانتفاضات العربية، حيث بدا تفكيره مطابقاً لذلك التشبيح الاستشراقي الذي مارسه رهط الذين يعتبرون أنفسهم «خبراء شرق ـ أوسطيين»، من أمثال باتريك سيل وفلنت ليفريت. ولقد اعتبر، على سبيل المثال، أنّ روسيا تعرف خفايا الشرق الأوسط أكثر من أية دولة أخرى في الغرب، ولهذا فإنّ وقوفها مع نظامَيْ معمر القذافي وبشار الأسد ليس نابعاً من المصالح، بل من القراءة الصائبة لحقائق التاريخ، من جهة؛ ولأنّ هذه «التحركات الشعبية»، التي يشهدها العالم العربي، لن تقود إلى الديمقراطية، من جهة ثانية.

يبقى، بالطبع، أنّ رحيل بريماكوف مرتبط بصناديق أسرار كثيرة، لعلّ بعضها سينفتح على هيئة وكر أفاعٍ فتاكة… متعددة السموم!

صبحي حديدي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى