صفحات الثقافة

توطين المحرر الأدبي/ محمد العباس

 

 

 

كلما أثير موضوع غياب المحرر الأدبي في الثقافة العربية تداعى الكُتّاب إلى الاستشهاد بإسهامات ماكسويل بيركنز، الذي أقنع دار النشر (سكربنرز) بأهمية كتابات آرنست همنغواي، لدرجة أنه صار لازمة في مجمل التحقيقات والحوارات الصحافية، حيث يُقدم كدليل على أهمية وجود المحرر الأدبي، وهو استدعاء مستوجب، إلا أنه لا يتردد في الأوساط الثقافية العربية وحسب، بل في الثقافة الغربية أيضا، إلى الحد الذي صار فيه الروائي جورج مارتن، مؤلف المسلسل الشهير «لعبة العروش» يسخر من أولئك المحررين الذين يكثرون من الاستشهاد به لتعزيم مواقفهم، فهم من وجهة نظره يعانون من الإصابة بما سماه متلازمة ماكسويل بيركنز.

ومهما قيل من المبررات يظل المحرر الأدبي مفهوما بعيدا كل البعد عن الناشر والكاتب العربي لأسباب كثيرة، يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، ويتعلق في المقام الأول بفكرة النشر المحترف، ولذلك غالبا ما يتم الخلط ما بين المحرر الأدبي والوكيل الأدبي، كما يتضح من مداخلات فئة عريضة من الكُتّاب من خلال إجاباتهم في الحوارات الثقافية، حيث يطالبون بوجود شخص أو جهة تتولى مهمة نشر الكتاب وتوزيعه والترويج له، وحساب الأرباح، ورعاية عدد الطبعات، وتجهيز منصات التوقيع ومنابر الاحتفاء بالإصدار، وكل تلك المتوالية من الأداءات ليست من مسؤوليات المحرر الأدبي، بل هي من صميم عمل الوكيل الأدبي الذي يتعامل مع المنتج الأدبي من منطلقات أدائية لا علاقة لها بجوهر النص وسيرورته، حيث عمدت بعض دور النشر الغربية إلى عدم استخدام المخطوطات من الكاتب مباشرة، بل عبر وكيل أدبي يغربلها ويختار الصالح منها، وبسبب كثافة المخطوطات المطروحة للنشر، أسست بعض الدور الأمريكية مواقع إلكترونية للتصويت على المسودات من قبل القراء، عبر مرشحات قرائية لكي تتأهل للوصول إلى الوكيل الأدبي ثم المحرر الأدبي.

أما المحرر الأدبي، فهو كاتب بالضرورة، أو على الأقل هو مشروع كاتب، حيث يدلّل بعض المتحمسين لوجوده بحاملة نوبل توني موريسون، التي عملت في دار (راندوم هاوس) كمحررة أدبية لأعمال أنجيلا ديفس وهنري دوماس وغيرهما، وإن كان هناك من الكُتّاب من يرفض إخضاع نصوصه لأي تدخل خارجي، ولا يقر بأهمية المحرر الأدبي، فهو في تصور ت. س. اليوت كاتب فاشل، يشاركه في هذا الرأي فلاديمير نابكوف، الذي يعتبره في أحسن الأحوال مجرد مصحّح لغوي، أما هنري جيمس فقد وصفه بالجزار، فيما شبّه جون أبديك فكرة تعريض النص للتحرير الأدبي بالذهاب إلى الحلاق، واعتبره د. هـ. لورنس بمثابة إعادة تشكيل الأنف وهكذا.

وبنبرة ساخرة ومتشفية يتهكم جورج مارتن على المحررين الأدبيين، فيقول بأنه يعرف طابورا طويلا من الكُتّاب يفضلون السير لأميال على أن يتحدثوا عن كتاباتهم، ويستطرد في القول بأن الكُتّاب يحبون الحديث عن ثلاثة أمور: المال والجنس والسخرية من المحررين الأدبيين، فهم ـ أي الكُتّاب – لا يشبعون لا من المال ولا من النساء، ولكن ما لا يحبونه ولا يتمنون التماس معه هو المحرر الأدبي، ثم يتساءل بإنكارية باترة عن حاجة العالم إلى المحررين الأدبيين، إذ لا يمكن للمحرر الأدبي أن يحفز الكاتب على أي شيء لا يوجد في داخله، فبمجرد صدور الكتاب يظهر اسم مؤلفه ويختفي اسم المحرر الأدبي.

هذه الآراء الرافضة لفكرة إخضاع النص لأي تدخل من خارج ذات الكاتب ليست مجرد مكابرات من ذوات إبداعية متعالية، بل يوجد على أرض الواقع من الإشكالات ما يسندها، حيث يمكن الاستشهاد في هذا الصدد بالخلاف الذي اندلع ما بين الكاتب النيجيري الحاصل على جائزة البوكر بن أوكري، وروبن روبرتسن، المحرر الأدبي لدار نشر سيكر وواربورغ، الذي قال بأنه أعاد صياغة الحوار في المجموعة القصصية «نجوم الحصار الجديد»، الأمر الذي رفضه بن أوكري ونفاه بشدة، لأن قصصه، حسب رأيه، تدور في بيئة نيجيرية وحواراتها مشبعة بطابعها المحلي، ولا يمكن لشخص إسكوتلندي أن يستوعبها أو يؤدي فروض تحريرها أدبيا، ولا تشكل تصريحاته لصحيفة «الديلي تلغراف» إلا محاولة يائسة للخروج من الظل.

كذلك يحتفظ التاريخ الأدبي بحكاية عميقة ذات مغزى ما بين الكاتب ريموند كارفر ومحرره الأدبي غوردن ليش، حيث اقترن اسماهما وتاريخهما الأدبي طويلا، إلى أن ضاق كارفر ذرعا بتدخلات ليش، فكاتبه عبر رسالة طويلة بالكف عن العبث بنصوصه، رافضا مواصلة التعاون معه، حتى إن كانت تدخلاته ستجعل من قصصه أفضل، لأن مشرط ليش أجهز على ما يعادل نصف النص، وهو إداء تعسفي يهدد بطمس شخصيته وتبديد أسلوبه، حيث فضل العودة إلى مسودة مجموعته «مبتدئون» وعدم إقرار النسخة المحرّرة، كما يمكن التذكير بغضب سلمان رشدي من محرره بوب غوتيليب، الذي قال بأنه لم يكن من المستحسن إصدار «آيات شيطانية» لكي لا يتسبب في مقتل الناس.

مقابل هذه الإشكالات والتعاليات على دور المحرر الأدبي هناك صورة أكثر إشراقا وإقناعا بأهميته، كما يتبين من قوائم الشكر التي تُذيّل بها الكتب، حيث نقرأ امتنان توماس وولف لماكسويل بيركنز، كما نطالع تحيات الروائية إليف شفق لقائمة من المحررين بول سلوفاك، وفينيشيا بترفلد، ونقف على اعتراف الروائي جوزيف هلر بالدور التحريري للمحرر الشهير بوب غوتيليب، كما تحدث غابريل غارسيا ماركيز بإجلال وإعجاب عن المحرر الأدبي لمجلة «تايم» رون شيبرد، الذي كشف عن معرفة عميقة وواسعة بالأدب، وهي شهادات تصب في مجرى الانتصار للمحرر الأدبي، الذي صار ركيزة مهمة من ركائز النشر المحترف، وعلامة من علامة الحداثة في التعامل مع النص.

لقد تهاوت مجموعة من الأوهام والخرافات حول منشأ الإبداع وتحطمت دعاوى عدم الحاجة إلى المحرر الأدبي، وذلك بعد انكشاف مجموعة من الأخطاء المعرفية والتاريخية والمكانية عند كُتّاب كبار، حيث صار التحرير تقليدا أدبيا على درجة من الأهمية، فلم يعد من المقبول نبرة التعالي التي يبديها أي كاتب كبير بعدم حاجته إلى محرر، واستعانته بصديقه أو أستاذه قد توقعه في خطايا المجاملة وعدم الخبرة، كما أن التصور السائد حول تشابه المحررين غير صحيح، فهناك من المحررين من يتعاملون مع النص بحب وإبداع وجدية مضاعفة، وأن الكاتب الحقيقي لا يرمي نصه على أول محرر يصادفه، بل يختار الأفضل من ذلك السوق الكبير والمفتوح للمحررين المعروفين.

هذا ما يحدث في الدوائر المتقدمة، حيث يعمل المحرر على محورين: محور جذب الكُتّاب الجيدين إلى دار النشر، واقناعهم بالنشر في الدار، ومحور تطوير النص، الذي يحايث نص الكاتب وفكرته وأسلوبه، وهذا الصنف الثاني ليس معنيا بالتصحيح اللغوي، بل بالتدخل المباشر في النص، ومحاورة المؤلف حول سيرورته، حيث يتميز بجرأته على نبش النص وتجريده من قداسته وفتح آفاق ذاتيته، إذ لا يوجد بمنظوره ذلك الكاتب العبقري الذي لا يُقارب نصه بالتعديل، كما استعرض هذه المهام فيلم «أولاد مذهلون»، حيث كان المحرر الأدبي تيري كرابتري يطارد الروائي جرادي تريب ليحثه على إنهاء روايته الثانية المتعثرة منذ سبع سنوات، وفي تلك الأثناء يحاول إقناع بعض طلابه بنشر أعمالهم في دار النشر التي يمثلها.

أما العالم العربي فما زال خارج هذا التوجه، سواء على مستوى الناشر أو الكاتب، إذ ما زالت دور النشر تستعين بمجموعة من الكُتّاب غير المتفرغين لإبداء آرائهم في ما يستحق النشر، وما لا ينبغي المغامرة بنشره، كما توظف أدباء لفحص النصوص بشكل عام وتنقيحها بدون التدخل المباشر فيها، حيث يعمل الروائي محمد ربيع محررا في دار التنوير مثلا، والشاعر تامر عفيفي في دار العين، وفي أحسن الحالات تكوين نسخ مقننة أو لجان شكلية مهمتها تحرير النصوص نحويا وإملائيا واقتراح تعديلات هامشية،

تتأخر مسألة تجذير الوعي بأهمية المحرر الأدبي عربيا، ربما لأن الكاتب العربي ما زال يعيش تحت وطأة إحساسه بعبقريته، ومفهوم التحرير الأدبي عنده لا يتجاوز ما أجراه طه حسين على رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، حيث شكلت تلك الحالة حجة للمتنازلين عن المحرر الأدبي، ولذلك يعتقد معظم الأدباء العرب أن تمرير نصوصهم على أصدقائهم يعفيهم من مهمة تحريرها الاحترافي، وهذا هو ما يفسر كم الأخطاء المعرفية والفنية في معظم الكتب العربية.

التحرير الأدبي إجراء على درجة من التلازم مع سوق الكتاب، بمعنى أنه ممارسة احترافية تتجاوز عرض الملاحظات الهامشية واقتراح التعديلات، وهي فضيلة أدبية يحتاج الناشر والكاتب العربي إلى توطينها في المشهد الثقافي بشكل احترافي والتخلي عن فكرة كون المحرر الأدبي مجرد كاتب فاشل يحوم حول مملكة نص الكاتب، وفي هذا الصدد لا بد من التذكير بقضية الكاتب جار الله الحميد، للتمثيل ببعض الإشكالات الممكن حدوثها عربيا في ما لو تجرأ المحرر الأدبي على المس بالنص، حيث هدّد باللجوء إلى القضاء لمنع نشر مجموعته القصصية عن النادي الأدبي في الرياض، بعد أن استلمها مدموغة بوابل من التعديلات والتصويبات، التي أجراها (محكّم) النص ليتأهل للنشر.

٭ كاتب سعودي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى