صبحي حديديصفحات سورية

توني بلير في البيت الأبيض: شيمة الرقص/ صبحي حديدي

 

 

الأرجح أنّ توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، لم يناقش جنس الملائكة مع جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأحد أبرز مستشاريه المقرّبين. الأوّل نفى التقارير التي تحدثت ـ منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ولكن منذ أيام قليلة أيضاً ـ عن عزم الرئيس المنتخب تعيين بلير في منصب المبعوث الخاصّ إلى الشرق الأوسط؛ ولكنه، في المقابل، لم ينف الاجتماعات مع الصهر المستشار، ثلاث مرّات حتى الساعة. واستطراداً، يصحّ التكهن بأنّ بلير قد يمارس الوظيفة «من خارج الملاك»، كما يُقال في الرطانة البيروقراطية؛ أي أنه سيعرض خدماته على جاريد دون أن يكون على رأس العمل رسمياً، خاصة وأنّ تعقيدات قانونية تكتنف تعيين شخصية غير أمريكية في موقع رفيع مثل هذا.

وحتى إذا صحّ هذا الترجيح، فإنّ اختيار بلير لأيّ موقع يخصّ نصح البيت الأبيض حول شؤون الشرق الأوسط، سوف يكون محض تتمة ـ أشدّ مأساوية ربما، وأكثv حماقة استطراداً ـ للنتائج الكارثية التي خلّفها بلير خلال قرابة ثماني سنوات من عمله كممثّل لـ»الرباعية»؛ أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، في التعاطي مع الحلول السلمية للنزاع في المنطقة. وبذلك، قد يقول قائل، محقاً تماماً في الواقع، فإنّ إدارة ترامب سوف تقطع خطوة إضافية على طريق الانسحاب من «حلّ الدولتين» الشهير، وربما من القسط الأكبر في جهود الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وبذلك، أيضاً، سوف يكون بلير أعلى انسجاماً مع حصيلة عمله في تمثيل قناعاته الشخصية، المنحازة لإسرائيل؛ أكثر، بكثير، من تمثل الرباعية ذاتها.

ومن المنتظَر، في المقابل، أن ينجح بلير في مزيد من تطوير مهارته الأولى الكبرى: تكديس الأموال، جراء خدمات استشارية شتى، قليلها فقط له معنى، ومعظمها ذرّ للرماد في العيون. وذات يوم، غير بعيد، تناقلت الصحف البريطانية خبراً يقول إنه تقاضى 200 ألف جنيه إسترليني لقاء محاضرة ألقاها أمام كوادر شركة مضاربات، كانت قد استغلت متاعب المصارف البريطانية خلال الأزمة المالية الأخيرة، وحققت عشرات الملايين من الأرباح. اللافت في الأمر أنّ هذه الشركة معروفة بتعاطفها مع حزب المحافظين، وتتبرّع لحملاته بمئات آلاف الجنيهات؛ مقابل عدائها الشديد لحزب العمال البريطاني، أي الحزب الذي وضع بلير في رئاسة الوزارة ثلاث مرّات.

من جانبها قدّرت صحيفة الـ»إندبندنت» أتعاب بلير بمليونَيْ جنيه سنوياً من مصرف بريطاني كبير، ونصف مليون من شركة خدمات مالية سويسرية، وأجور تتراوح بين 50 و170 ألف جنيه لقاء محاضرات متفرقة، إلى جانب أرباح مؤسسة «بلير وشركاه» للاستشارات عبر البحار. وعلى نحو تقريبي، بلغت حصيلة ما جناه الرجل بعد أن ترك المنصب، سنة 2007، قرابة 15 مليون جنيه إسترليني. الـ»دايلي تلغراف»، من جانبها، كشفت النقاب عن وظيفة يتولاها بلير، لدى شركة أزياء فرنسية كبيرة، براتب خيالي يُحتسب بستّة أرقام…

كلّ هذا حين كان على أعتاب المثول أمام «لجنة شيلكوت» البرلمانية البريطانية، المكلفة بالتحقيق في خلفيات التحاق بريطانيا بالولايات المتحدة في غزو العراق واحتلاله؛ في غمرة إصرار بلير على أنه كان سيشارك واشنطن في الإطاحة بنظام صدّام حسين، حتى دون التأكد من وجود أسلحة الدمار الشامل. أكثر من هذا، بلغ به الصلف حدّ التصريح علانية بأنّ عدم العثور على تلك الأسلحة كان تفصيلاً «فنّياً» محضاً، وأمّا «الصورة الأهمّ» في المشروع بأسره، أي الغزو والاحتلال وقلب النظام، فإنها كانت وتظلّ ثقته القصوى بصواب قراراته، ومشروعيتها وأخلاقيتها.

ومن المعروف أنّ بلير زاود على الأمريكيين أنفسهم في تصعيد الحرب النفسية، خصوصاً حين نشرت حكومته ما أسمتها «تقارير سرية خطيرة»، عن وجود ترسانة عراقية مرعبة، خرجت بغتة من مغارة علd بابا: صواريخ سكود سليمة مصانة، وأطنان (نعم، أطنان!) من المواد الكيماوية الجاهزة للتحوّل إلى أسلحة كفيلة بإبادة «سكان الأرض بأكملهم»، كما جاء في النصّ الحرفي حينذاك. ولقد تطوّع لتبرير فضائح كلنتون المالية والجنسية، فكان هكذا يخون، سعيداً راضياً، «مدوّنة السلوك» التي بشّر بها طويلاً؛ هو المعروف بدفاعه المحموم عن «القِيَم العائلية»، الساعي إلى تجسيد «المعجزة الأخلاقية للبريطاني النيو ـ فكتوري»، السائر على السبيل الثالث بين اليمين واليسار!

وذات يوم سرد المعلّق البريطاني بول فوت جملة أسباب عميقة للشكّ في أنّ هذا الـ»توني بلير» هو نفسه ذاك الـ»توني بلير» الذي صعد من صفوف الحزب إلى هرم القيادة، على أساس مناهضة سياسات مارغريت ثاتشر الاجتماعية ـ الاقتصادية؛ ومن منبر دفاعه الحارّ والمشبوب عن حقوق الضمان الصحي، والنقابات، واقتصاد السوق. أهذا، تساءل فوت، هو بلير الذي وعد ـ في مؤتمر حزب العمال سنة 1996 ـ بسكك حديد يملكها القطاع العام وتخضع لمساءلة القطاع العام، وهو اليوم المسؤول الأوّل عن عدم بقاء تلك السكك في يد القطاع العام، وعدم خضوعها لرقابة القطاع العام؟ أهو الذي وعد بإعادة صناعة الكهرباء إلى الدولة، بعد أن خصخصها المحافظون؟

بيد أنّ على المرء، إذْ يستجمع كلّ هذه المعطيات عن شخصية بلير، عشية احتمال تعيينه مبعوثاً للبيت الأبيض إلى الشرق الأوسط؛ ألا ينسى البتة أنه في الأصل اعتلى هرم الحزب القيادي على هيئة المنقذ من سلسلة مآزق إيديولوجية، بدت أشبه بأزمة هوية بين تراث الحزب الاجتماعي وميوله الليبرالية الوليدة، وتراكمات غياب عن السلطة دام 18 سنة. والناخب البريطاني لم يكن بحاجة إلى كبير عناء لكي يدرك الفارق البرنامجي الضئيل بين «العمال الجديد» والركائز الكبرى في الفلسفة الثاتشرية. وفي نهاية المطاف، يدلي الناخب بصوته وهو مثقل تماماً بضغوط ترجيح الاعتبارات الاجتماعية (العمل، التعليم، الصحة، السكن، النقل…)؛ على الاعتبارات السياسية (غزو العراق، التبعية لأمريكا، الاتحاد الأوروبي…)؛ أو الاعتبارات الإيديولوجية (يسار الوسط، يسار اليسار، يمين الوسط، يمين اليمين…).

ولكي يعود المرء إلى أمريكا، التي ستدفع رواتب بلير، ثمة مغزى في استذكار أحدث اهتداءات الرجل هناك: نظرية صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات والأديان، بعد أن شبعت احتضاراً، ودُحرت مراراً وتكراراً على أرض الواقع، معظم أطروحاتها وفرضياتها. كأنّ بلير يدخل إلى أسواق التنظير القديمة، هذه وسواها، على هيئة زائر منذهل مأخوذ بما يكتشف من عجائب؛ أو كأنّ تمثيل اكتشاف الجديد هو التكتيك الأصلح لاستغفال العقول، و… استدراج التمويلات، والمزيد منها.

ذلك لأنّ راعية هذا التطوّر «الفلسفي» كانت «مؤسسة توني بلير للإيمان»، التي أسسها صاحبها سنة 2008، في نيويورك؛ ولها فروع وشراكات وتعاقدات ومشاريع في عشرات البلدان، وقد جمعت تبرعات بعشرات الملايين، ورواتب كبار مسؤوليها تُحتسب بستة أرقام أيضاً. وإذْ تعلن المؤسسة أنّ فلسفتها المركزية هي التقريب بين الأديان التوحيدية الثلاثة، فضلاً عن البوذية والهندوسية والسيخية؛ فإنّ بلير نفسه لا يعود إلى استلهام هنتنغتون إلا لكي يشدّد على اصطراع الأديان والمذاهب؛ وأنّ «الخلاف الديني، وليس الايديولوجيا، هو محرّك المعارك الملحمية في هذا القرن»، كما يقول عنوان مقالته التي شاء أن ينشرها في صحيفة «الأوبزرفر».

وفي كلّ حال، إذا كان ربّ العمل ـ ترامب، نفسه ـ بالطبل ضارباً، في شؤون وشجون الشرق الأوسط، بادئ ذي بدء؛ فما شيمة المستخدمين لديه، من أمثال بلير على الأقلّ، إلا… الرقص!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى