صفحات العالم

ثنائية الاحتلال والاستبداد في سوريا/ باسل أبو حمدة

 

 

مرت الثورة السورية الراهنة بمراحل سبع أفضت جميعها إلى احتلال مركب متعدد الجنسيات للبلاد، وعملت غرفة عمليات النظام السوري وحلفائه الخارجيين منذ البداية، ونجحت إلى حد كبير في إعداد وإخراج تلك المراحل الواحدة تلو الأخرى، بالصورة التي ظهرت عليها منذ مرحلة الهبة الشعبية السلمية، وانتهاء بمرحلة الاحتلال الأجنبي للبلاد، مرورا بمراحل خمس حملت عناوين العسكرة والتطييف والأقلمة والتدويل، فضلا عن مرحلة الكفر بتشكيلات الثورة العسكرية والسياسية وحتى المدنية، التي خلطت أوراق اللعبة، وساوت بين النظام والمعارضة، في عملية نقد هدامة تمكنت من تعويم النظام وتطبيع حضوره في مختلف المحافل السياسية الدولية، بوصفه جزءا من حل المعضلة السورية، وليس لب المشكلة برمتها، والسبب الرئيسي في استعصائها على أي حلول سياسية طرحت لحلها حتى الآن وما أكثرها.

هذه الخريطة السياسية المعقدة نجمت عن قذارة الأدوار التي لعبها النظام السوري اقليميا ودوليا، على مدار سنوات حكمه الطويلة، وضمنت له حضورا في سائر ملفات المنطقة الأمنية والسياسية، من خلال استعداده المطلق لمد مزيد من الخيوط السوداء مع أي من الأطراف الاقليمية والدولية، مهما كانت توجهاتها السياسية حيال سوريا، ولتقديم أي جرعة من التنازل عن السيادة الوطنية لتلك الأطراف مجتمعة، أو فرادى، فضلا عن استعداده اللامحدود لرفع فاتورة الدم السوري إلى أي حد يتطلبه هوسه في البقاء في سدة الحكم، ما يعني بداهة دق ناقوس الخطر وتعبئة وحشد قوى الشعب السوري، بمختلف أطيافه وتوجهاته الفكرية والسياسية، للوقوف في وجه مجموعة التهديدات التي تضع مصير البلاد والعباد في مهب المجهول، وبين أيدي قوى أجنبية لم يعد كافيا إدراج ممارساتها المعادية لتطلعات السوريين، ضمن دائرة التدخلات الخارجية فحسب، وإنما ينبغي وسمها بما ينسجم ومآلات الواقع الميداني والسياسي السوري، الذي يشي بوضوح لا تخطئه عين ولا تنقصه معطيات ويشير إلى أن سوريا باتت دولة محتلة ومحتلة بصورة مركبة أيضا.

هكذا تقتضي ضرورة التشخيص الدقيق للحالة السورية الراهنة، مراجعة الكيفية التي استقدم النظام السوري قوى خارجية لمؤازرته في حربه الهوجاء ضد الشعب السوري، سواء كانت رسمية تحت ذريعة معاهدات الدفاع المشترك (ايران وروسيا) أو ميليشياوية (حزب الله والميليشيات العراقية وغيرها) فلقد تعاظم دور قوات الحرس الثوري الايراني وميليشياته إلى درجة بلغت حد السيطرة الكاملة على مراكز صنع القرار في الدوائر العسكرية والأمنية التابعة للنظام، في حالة لا يمكن وصفها إلا بالاحتلال، ما أثار حفيظة قوة أجنبية أخرى استقدمها النظام لمؤازرته أيضا وتفوق القوة الايرانية فعلا وتأثيرا على الساحتين الاقليمية والدولية، فطغى الحضور العسكري الاستراتيجي الروسي على الحضور الإيراني، في معادلة الصراع على سوريا، وهكذا باتت البلاد ترزح تحت مستوى ثان من الاحتلال، مشكلا شراكة احتلالية مزدوجة لم تظهر معالمها النهائية بعد على الخريطة السياسية الاقليمية والدولية لاسيما إذا أخذ بعين الاعتبار نظرة القيادة الروسية للصراع في سوريا، بوصفه رأس حربة عودة الدب الروسي كقطب عالمي يحسب حسابه في رسم خريطة توزع مراكز النفوذ الدولية حول العالم.

كما تحتم ضرورة التشخيص هذه توسيع زاوية الرؤية للواقع السياسي والميداني السوري وإلقاء نظرة شمولية على خريطة توزع مراكز النفوذ التي تتشابك في أهدافها المعلنة في محاربة الارهاب، وكذلك في توصيفاتها كقوى محتلة أصغر حجما وأقل تأثيرا، حيث تظهر غرفة عمليات «الموك» في العاصمة الأردنية عمان التي تتحكم بمجريات الأحداث في منطقتين حيويتين في الجنوب السوري وتمتدان إلى حدود البادية التدمرية، وكذلك غرفة عمليات» درع الفرات» بقيادتها التركية التي باتت تسيطر على الشريط الحدودي السوري- التركي الممتد من جرابلس شرقا إلى مشارف الباب غربا وحتى مشارف منبج جنوبا، بينما يسيطر تحالف من نوع آخر خاص جدا على بقية هذا الشريط الحدودي، الذي يتجاوز طوله 900 كيلومتر، والمقصود هنا التحالف الذي يجمع بين قوات الاتحاد الديمقراطي الكردي مع قوى عسكرية غربية بقيادة الولايات المتحدة بضوء أخضر روسي – إيراني، لكن تبقى ريادة السيطرة على باقي الأراضي السورية الخارجة عن سيطرة المعارضة السورية المسلحة بيد الروس أولا والإيرانيين ثانيا، وهذا يشمل منطقة الساحل وحلب وحمص وحماة والعاصمة دمشق وغربها، وصولا إلى الحدود اللبنانية، التي يتمركز فيها حزب الله اللبناني.

على مقلب آخر لا يزال يلفه الغموض وتكتنفه تساؤلات مثيرة للجدل ولكنه يشكل جزءا عضويا من محاولة تشخيص الحالة السورية، ثمة حقيقة أخرى تتكشف وتكشف النقاب عن الأسباب الحقيقة الكامنة وراء حمى «محاربة الإرهاب»، حيث يتضح أن تطهير الأرض السورية من الجماعات الارهابية يندرج ضمن حزمة من الضرورات التي تهدف إلى تهيئة الأجواء لإقامة المستعمرين الجدد على الأرض السورية، وتشييد البنية التحتية اللازمة لبقائهم أطول فترة ممكنة، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب على كافة المستويات، بدءا من الاستثمارات الخاصة بالتسلح وإعادة إعمار سوريا، وليس انتهاء باستخدام الحالة السورية كورقة من أوراق القوة والضغط في لعبة تقاسم الاحتكارات ومراكز النفوذ على المستويين الاقليمي والدولي.

على ضوء ذلك يتبين أن الدولة السورية بقوامها الأسدي الحالي، التي لا تزال الهيئات الدولية والعربية تعترف للنظام بشرعية تمثيلها، ليست بعيدة بأي حال من الأحوال عن خريطة الاصطفافات السياسية والعسكرية بمحورها المتمثل في قوى احتلال متعددة الجنسيات بعد أن تحولت قوات النظام السوري، تحت ذريعة محاربة الإرهاب إلى قوة داعمة للاحتلال الأجنبي للأرض السورية، وبمقتضى ذلك يكتمل تشخيص الحالة السورية، وتتكامل عناصر الأزمة السورية في اقصى درجات استعصائها، بينما يصبح من الأسهل الإجابة على تساؤلات المآل الكارثي والمصير المجهول التي تتناقلها ألسن المواطنين السوريين أينما حلوا.

بناء عليه، ترقي ضرورة مراجعة مسار الثورة السورية إلى حدودها القصوى في هذه الحالة، خاصة أن الخلل يطل هذه المرة من باب ضرورات التشخيص السليم لهذا المسار، تمهيدا لوضع استراتيجية سليمة أيضا للخروج من الكارثة المتمادية طولا وعرضا في سائر أوجه حياة السوريين وقواهم السياسية الكامنة منها والخارجة إلى حيز الوجود حتى اللحظة، بحيث يتطلب تصحيح مسار الثورة السورية إدراك حقيقة ما يجري بعيدا عن حسابات الآخرين، حقيقة الاحتلال المركب متعدد الجنسيات، الغائب كعنوان رئيسي لهذه المرحلة السياسية التي تمر بها البلاد، عن البرامج السياسية للقوى السورية الغيورة على المبادئ التي انطلقت من أجلها ثورة السوريين «اليتيمة».

إذا كان عنصر الاحتلال الأجنبي للأرض السورية مهما ولا يمكن اغفاله أو التعاطي معه على هامش الأحداث، مضافا إليه من حيث الأهمية ضرورة تغيير النظام السياسي، وبناء سوريا الجديدة الخالية من نظام الأسد المستبد، فضلا عن ضرورة التخلص من العوالق المتطرفة التي رافقت الثورة ونمت على جدرانها، فإن استراتيجية الدفاع عن حقوق الشعب السوري في الحرية والكرامة تتطلب المزج بين مستويات سياسية ثلاثة للصراع: طرد المحتلين والاستقلال، وإسقاط النظام الاستبدادي، وأخيرا محاربة التطرف، وهذا يتطلب بدوره اللجوء إلى أساليب ثورية جديدة أكثر نجاعة واستجابة لضرورات المرحلة من بينها، اللجوء إلى أشكال مقاومة مبتكرة وتفعيل ساحة الحراك المدني بين فئات الشعب السوري في سائر أماكن وجوده، فضلا عن إعادة النظر بطبيعة تحالفات وعلاقات قوى الثورة على الصعيدين الإقليمي والدولي وتفعيل الصلات مع القوى الديمقراطية حول العالم على قاعدة المهمة المزدوجة: التحرر والتحرير.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى