صفحات الثقافة

جوفوبيا الغربة/ لانا العطار

 

 

أكتب لكم من مكان بعيد جدا، لو سمحت افتح خريطة العالم على الطاولة، واسند يديك على طرفها من الجانبين كي لا تتطاير، ستقع عيناك تلقائيا على بلد يعيش فيك، إرفع نظرك عنه واذهب إلى الساحل الغربي الأخير، هناك أنا، ووطني هو نفسه الذي كتبت عنه المناهج الدراسية بأنه «يتميز بموقعه الجغرافي وسط العالم، ويتسم بطقسه المعتدل طوال العام ويعتبر نقطة جذب لكل السياح».

إلى هنا سمحت لفضول الجميع بالقراءة، ونصيحتي لمن لا يهمه الأمر أو لم يعش الفراق الطويل، أو لا يجد نفسه فيه، لا تتابع فهو مرض خطير معد يضيق على الروح، ويسيطر على أدائك اليومي من دون أن تشعر.

تشخيص خاطئ: ذلك المرض الملازم، لا يكل ولا يمل، لا يفّرق بين التوقيت الصيفي والشتوي هنا، فلكلاهما ليل طويل ونهار ينتظر الليلة التالية، حتى لو حاولت الهروب إلى الجامعة أو العمل، لن تجد الدواء، أسألت مريضا في السرطان عن العلاج الكيماوي، إسأله عن الألم، سؤالك له بحد ذاته وجع، سيحتار من أين يبدأ الوصف، قف هنا حين ترددت، نعم هنا قبل أن يعلن عن استيائه على ملامح وجهه .. هذه هي الغربة!

أعراضه الأولية: المغترب لم يكن حساسا هكذا من قبل، لك أن تتخيل حجم الإقصاء الذي يعيشه، رحيل واحد جرده من كل شيء، من ذكرياته، واقعه، ممتلكاته من سريره الدافئ من عائلته وأصدقائه حتى من الأشخاص الذين حـــاولوا ايذاءه، هذا الكم من الخسارات كان في ليلة واحدة وبقوة واحدة، كبراد الحديد حين تفصله عن حدوة المغناطيس، سيشكل نفسه من جديد وتتلاشى خطوط مجاله الأول، هو الآن إما عاطفي جدا أو دفن مشاعره في أرض غريبة، ووضع عليها الوردة الأخيرة.

أعراضه المباشرة: حتى في مطبخي الصغير، يلهمني عقلي اللاواعي بأصوات احتفظ بها لسنوات، أتدري حين تشتاق لتفاصيل لم تكن تشعر بها أصلا، تماما كصوت صفير الطناجر، ضحكات الصديقات في زوايا المطبخ أثناء إعداد أطباق صغيرة لسهرة انتهت قبل أن تبدأ، مضحكة أنا حين أرفع الغطاء عن الطعام وأطرق معلقة الخشب على حافة الطنجرة، لا أدري ما أصل هذه الحركة ، لكنني استمتع بصدى طرقات أمي الثلاث.

وبالمناسبة بدأت أحب البامية التي كرهتها منذ سن السابعة، واستطيع أن أسمع صوت الهدوء وحولي مئات الناس، الغربة مواجهة قسرية قاسية مع الحياة لتنتصر عليها وتؤكد لها أنك هنا لفترة مؤقتة فقط.

علاج مؤقت: حين يشتد ألم الحنين.. أهربُ إلى أضخم متجر للسكاكر.. ليذكرني بأصغر دكان في أحياء جبل عمان. لأشم طفولتي وأتذوق طعم الوطن وأعود إلى الواقع.

أعراض جانبية: أتجنب التحدث مع عائلتي عبر تطبيقات الفيديو، أشعر بالعجز، حين تضع زينة أصابعها الصغيرة لتلمس يدي، ويغمرني التبلد حين أكلم والدي، ووقار الأبيض بدأ يغزو أطراف لحيته، تسبقني الأيام وتأخذ معها لحظات الفرح التي أراها بالصور، أراقبهم من بعيد، أحبهم بصمت، صحيح كم أكره الشاشات.

علاج مؤقت آخر: حتى زيارة الصيف إلى عمان لا تشبع لوعة الشوق، شبح الفراق يلاحقني ويعكر ساعات الفرح المتبقة لي بينهم، الغربة أن ينام الجميع، وتبقى مستيقظا لتلتمس حسيسهم وتسمع صدى حديثهم من الجدران الصامتة، تحتفظ بأكبر قدر من أصواتهم، وصور كثيرة في شريط مخيلتك، لتعيد بناء فيلمك القصير معهم بلحظات الحنين هناك خلف البحار.

وصفة سحرية: حين تكلمونه، أوقفوا تلميحاتكم السلبية عن بلاده، ولد وكَبر فيها، بلاد الفقر واللجوء والحرب والدم والأزمات، أنا وهو نعرفها جيدا، أنا وهو نحبها، ولن أتكلم عنه، أما أنا فأحترم الرأي والرأي الأخر، لكنني حازمة في وصف الاغتراب، وستجدني كاللبوة حين تجادلني وتبدأ كلامك، ( لانا بس…) لا تكمل أرجوك، الجمال يحيط بي نعم، بلد الأحلام نعم، فرص عمل نعم، حقوق إنسان نعم، القانون فوق الجميع صحيح، حريات ألف نعم، سأقطع قدميك وسأرسل معك إلى الجنة عكازا من ذهب، أتذهب؟

للمغتربين فقط ـ من فرط البعد يوهبك الله «الحاسة العاشرة» التي تتمكــــن من بعثرة حواسك التسع وسلبها الخـــــواص الحقيقة، تتذوق الألم وتتنفس الحب، تشم رحـــيق البعد وتشعر بطعم الوحدة لذلك الرجاء وضع الدواء بعيدا عن متناول الآخرين، واحفظ إخلاصك وحبك لبلدك في الثلاجة، ولا تنهزم بين الحين والآخر، حاول أن تبكي وحيدا حتى يحين موعد الزيارة المقبلة.

٭ كاتبة أردنية

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى