بكر صدقيصفحات سورية

حول الهجمات على المدنيين في الحروب السورية/ بكر صدقي

 

 

يكمن وراء الإدانات الواسعة للهجمات على المدنيين التي تقوم بها قوات من المعارضة المسلحة، إقرار ضمني بنزاهة تلك القوات ووطنيتها وإنسانيتها، إلى آخر ما هنالك من أوصاف إيجابية، بمقابل وحشية مسلم بها ومتفق عليها لقوات النظام وميليشياته الطائفية المنفلتة. وكأن خروج النظام الذي قتل، إلى اليوم، نصف مليون سوري ـ غالبيتهم الساحقة من المدنيين العزل- على كل القوانين والأعراف و»أخلاقيات الحروب» ومبادئ الوطنية، أمر بديهي لا يستحق النقاش، ولا حتى مجرد التنويه، لأنه «من طبيعة الأمور».

هذا خطير، وخطير جداً. فالنظام الكيماوي هو الذي يمسك ببقايا الدولة، بما في ذلك ترسانة ضخمة من الأسلحة المعدة لحروب مع جيوش دول أخرى، وهو يستخدمها جميعاً في ضرب المناطق الآهلة بالسكان، وكانت حصيلتها، إلى الآن، تدمير ثلاثة أرباع العمران في سوريا، الأمر الذي يفسر تهجير أكثر من نصف السكان خارج موطنهم، غير نصف المليون من القتلى وأضعافهم من الجرحى والمعطوبين.

وبموازاة ترسانة الأسلحة، ما زال النظام يتمتع بالشرعية الدولية بوصفه «الحكومة السورية» وعبره تمر المساعدات المقدمة من الأمم المتحدة والمفترض أن تصل إلى أولئك المنكوبين الذين يستحقونها، ويعرف العالم أنها لا تصل إليهم، بل تسطو عليها عصابات الشبيحة وتبيعها، أو تصل إلى بيئات موالية آمنة من البراميل المتفجرة والقصف الجوي.

فإذا أراد المرء توزيع المسؤوليات عن قصف المدنيين على مختلف أطراف الصراع في سوريا، توجب تحميل النظام المسؤولية الأولى، بل الحصرية، لأنه الجهة الوحيدة المفترض أن تتحمل المسؤولية عن حماية السكان، ناهيكم عن عدم استهدافهم بصورة منهجية. بكلمات أخرى: لا يمكن محاسبة مجموعات مسلحة ما دون الدولة، مثل محاسبة الدولة. بل أكثر من ذلك: حتى الانتهاكات التي تقوم بها أي مجموعات مسلحة، تؤول مسؤوليتها إلى الدولة التي فشلت في حماية السكان منها. أليس الفشل الأمني في مواجهة عمليات إرهابية تقصيراً يدفع قادة الأجهزة الأمنية أو وزراء الداخلية إلى الاستقالة وتقديم الحساب، في الدول «الطبيعية» التي تعرف معنى الدولة ومتطلبات السلطة عليها؟

واقع الحال معكوس تماماً في سوريا. فالجميع يتعامل مع نظام البراميل والكيماوي بوصفه «قبضاي الحارة» الذي لا يطاله القانون ولا يخضع لأي أعراف أو أخلاقيات، ويضرب من يشاء ويسطو على ما يشاء، بلا أي ضوابط. مع أن نمط قبضاي الحارة الشرقي التقليدي نفسه يستند إلى شرعية من السكان المحليين الذين يقدمون الخضوع والأتاوة للقبضاي مقابل حمايتهم من أي مخاطر على أمنهم. وحين يكف عن حمايتهم، يسحبون تفويضهم له ويسقطونه. أي أن نمط القبضاي يحيل أيضاً إلى نموذج بدائي ومحلي لـ»الدولة» وإن كانت استبدادية واعتباطية وقائمة على علاقة قهرية. وهكذا نرى أن النظام الكيماوي في دمشق يرسب حتى في المقارنة مع قبضاي الحارة المعروف بالشهامة والنخوة وغيرها من الصفات المحمودة، على الأقل في صورته في المخيلة الجمعية لسكان منطقتنا، بصرف النظر عن مدى مطابقة هذه الصورة للحقيقة التاريخية.

بالمقابل، هناك محاسبة صارمة، من قبل الرأي العام، لكل انتهاك يصدر عن فصائل المعارضة المسلحة المسماة تجاوزاً بالجيش الحر. وهذه المحاسبة، وأهمها إدانة استهداف المدنيين في مناطق سيطرة النظام أو مناطق سيطرة وحدات حماية الشعب ـ الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي، تحسب لصالح «الجيش الحر» لأنها تعتبره طرفاً مسؤولاً قابلاً للمساءلة وفقاً لمبادئ مجردة (الوطنية أو الثورية). وقد أثار استهداف حي الشيخ مقصود في حلب ذي الغالبية الكردية، وتسيطر عليه «وحدات الحماية»، مؤخراً، موجة إدانات واسعة في الرأي العام المعارض لنظام البراميل.

اللافت للنظر، حين تستهدف مناطق آهلة بالسكان من قبل المعارضة المسلحة، أن ردود الفعل، بغالبيتها، تكون فئوية واستنسابية. أي أن الانقسامات العمودية في المجتمع التي عمقتها سنوات الحرب، تبرز بقوة في ردود الفعل هذه وتحول دون تشكيل رأي عام موحد له معايير أخلاقية مجردة وعامة.

الحديث، في هذا الإطار، عن داعش وفصائل جهادية أخرى فرضت سيطرتها على مناطق واسعة، يختلف عن طريقة تناولنا لفصائل المعارضة المسلحة أو الجيش الحر. فبالنسبة لداعش هناك رأي عام موحد ضدها بصفتها «الشر المطلق» الذي تقاس عليه الشرور. فلا يعترف أحد بأنها «دولة» كما ترى هي نفسها، ولا تنجيها صفة «الشر المطلق البديهي» من الإدانة الحادة كحال نظام الكيماوي. أي أن داعش يشبه نظام بشار كثيراً بممارساته الوحشية، لكنه يفتقر إلى الدلال الذي يتمتع به الأخير وينجيه من العقاب. فهو يستقبل في وكره نواباً انتخبهم الشعب الفرنسي، في حين توحدت كل دول العالم لمحاربة شقيقه في الإجرام «داعش».

أما جبهة النصرة التي يبدو أن التنافس على «الشرعية الجهادية» بينها وبين داعش، في إطار «أخوة المنهج» دفعتها لارتكابات بحق السكان أدت، في مدينة المعرة، إلى ثورة شعبية عليه، فينطبق عليها ما قيل عن شقيقتها اللدود. وبالعودة إلى القصف العشوائي للمدنيين في «مناطق سيطرة العدو» فلا داعش ولا النصرة أو غيرها من المنظمات الجهادية، تتمتع بأي حصانة من النقد والإدانة في مختلف انقسامات الرأي العام. أخيراً لدينا سلطة أمر واقع «وحدات حماية الشعب» التي خصصت منظمة العفو الدولية تقريراً بانتهاكاتها في مناطق تل أبيض والجزيرة. وفي حين تلقى هذه الانتهاكات ردود فعل واسعة وحادة من الرأي العام المعارض، فردود الفعل هذه ليست بريئة من «التسييس» إذا صح هذا الوصف. أعني أن الموقف السياسي المسبق من حزب الاتحاد الديمقراطي القائم على مخاوف من «النزعة الانفصالية الكردية» تلعب دوراً كبيراً في حدة ردات الفعل ـ المحقة بذاتها ـ على الانتهاكات. والحال أن هذا الرأي العام لا يكترث كثيراً بانتهاكات الحزب الأوجالاني ضد السكان الكرد أنفسهم، بمقابل ارتفاع صوته (المحق، مرة أخرى) حين يتعلق الأمر بانتهاكاته ضد سكان من غير الكرد.

استهداف المدنيين، بالقصف العشوائي أو بأي نوع من الانتهاكات، أمر مدان دائماً وفي كل مكان، ومن أي جهة جاء، ومهما كانت البيئة المستهدفة. ولا يجوز تبرير انتهاك بانتهاك مقابل. ويحسب لقوات المعارضة أنها الأقل استهدافاً للمدنيين، بالمقارنة مع قوات النظام وميليشياته. كما يحسب لها أنها تحاسب بقسوة من قبل الرأي العام بصفتها جهة مسؤولة، ويحملها هذا عبء رسالة الثورة ومبادئها.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى