صبحي حديديصفحات سورية

خصومات الكرد: إرث الملا مصطفى البارزاني/ صبحي حديدي

 

 

في مطلع ستينيات القرن الماضي، كتب الشاعر العراقي، محمد مهدي الجواهري، قصيدة طويلة بعنوان «كردستان يا موطن الأبطال»؛ جاء فيها، على سبيل امتداح الملا مصطفى البارزاني (1903 ـ 1979)، هذا البيت: «باسم الأمين المصطفى من أمّة/ بحياته عند التخاصم تُقسَمُ». ولعلّ الذكرى السابعة والثلاثين لرحيل االبارزاني، التي مرّت قبل أيام، مناسبة كاشفة حول اختلاف الكرد ـ وليس، البتة، اتفاقهم، كما للمرء أن يتخيل ـ حول شخصية البارزاني الأب.

نقرأ، في العديد من المواقع الكردية، أخبار الاحتفاء بهذه الذكرى في قرى وبلدات ومدن كثيرة على امتداد منطقة «الجزيرة»، شمال شرق سوريا؛ وعلى نحو مختلف عن سنوات سابقة في الواقع، إذْ أتاح خروج هذه المواقع عن سيطرة النظام إمكانية الاحتفال العلني، مقابل احتفالات كانت تُقام سرّاً وتحت سقوف البيوت. في المقابل، يزور المرء الموقع الرسمي لـ»حزب الاتحاد الديمقراطي»، الـPYD، فلا يجد أيّ ذكر لهذه المناسبة؛ بل لا يرد ذكر البارزاني الأب إلا في صيغة إشارة يتيمة، ضمن مادة تحتفي بالذكرى السبعين لإعلان جمهورية مهاباد (كان الملا مصطفى أحد أربعة مُنحوا لقب جنرال في الجيش الشعبي للجمهورية تلك).

أكثر من ذلك، ينقل موقع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أنّ المجلس الوطني الكردي في عفرين احتفل بالمناسبة في غرفة مغلقة؛ ونقل موقع ARANEWS أنّ ذلك تمّ بسبب «إجراءات الإدارة الذاتية في المدينة، ومضايقاتها للمجلس الوطني الكردي، بحسب منظمي المناسبة». وخلال الاحتفال أعلن عبد الرحمن آبو، عضو اللجنة المركزية في الحزب: «إجراءات ما تسمّى الإدارة الذاتية، التي تعادي الإرادة الحقيقية للشعب الكردي اضطرتنا لإحياء الذكرى في الغرف مثلما كنا نفعل إبان سلطة النظام الديكتاتوري». تفصيل أخير: بينما احتفت مواقع كردية باحتفالية الذكرى في بلدة قبور البيض/ تربسبيه، شاء موقع الـPYD التركيز على… «حملة تنظيف في إيالة تربسبيه»، التابعة لـ«كانتون الجزيرة»، كما قالت!

وإذا كان بعض هذا الافتراق يعود إلى خلاف الـPYD مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، وزعيمه مسعود البارزاني شخصياً، حول تفاصيل ميدانية تخصّ خيارات الـPYD العسكرية، وتحالفاته الداخلية والخارجية؛ فإنّ الجوهر يعود إلى تباينات كبرى حول مسائل جيو ـ سياسية وعقائدية أبعد غوراً، تضرب بجذورها في فلسفة التنظيم الأمّ، «حزب العمال الكردستاني، الـPKK. هنالك مسألة الكفاح المسلح، الذي استقرّت عليه عقيدة الحزب الأخير، وفرعه الكردي في سوريا؛ مقابل العمل السياسي والحلول السلمية والتفرّغ لبناء الإدارة الذاتية والدولة في كردستان العراق، عند الحزب الأول. هنالك، أيضاً، الماركسية ـ اللينينة بوصفها إيديولوجية الـPKK؛ مقابل القومية الكردية والإسلام الشعبي واللحمة العشائرية، لدى «الديمقراطي». وهنالك، ثالثاً، الموقف المتعارض إزاء الدور التركي: الإقليم يراه ضرورياً لمواجهة «داعش»، وقابلاً للتحالف بالتالي؛ والـPKK يرى النقيض، حتى بعد موافقة زعيمه التاريخي عبد الله أوجلان على مشروع المصالحة التركية ـ الكردية.

كذلك يمكن لهذا الجوهر أن يُرى في إطار أوسع، كردي ـ كردي، عابر للأحزاب والعقائد والمنظمات والأفراد؛ وذاك، في جانب بارز من معادلاته، يخصّ اختصام الكرد بين بعضهم بعضا، ليس حول قضاياهم المركزية، أو حول هذا الخيار أو ذاك بصدد أفضل السُبُل لتحقيق مطامح الكرد المختلفة، المشروعة في معظمها؛ بل حول أخطاء تاريخية قاتلة ينزلقون إليها في تحالفاتهم على وجه التحديد. ومن المحزن أن المراقب للشأن الكردي، خاصة ذاك المتضامن مع حقوقهم المشروعة، مضطرّ إلى استرجاع تلك المقولة العتيقة التي تُقيم تاريخ الكرد على سرديتين: الموجات المتعاقبة من الاضطهاد الإثني والسياسي والثقافي، من جهة أولى؛ والخيانات الدائبة، على يد الجهات ذاتها التي اعتبرها الكرد حليفة وصديقة، من جهة ثانية. وأمّا النتيجة الموضوعية لاختلاط سردية بأخرى، فهي انجراف بعض القيادات الكردية إلى ارتكاب أخطاء كارثية، سواء بسبب خلاصات خرقاء تقود إلى سياسات رعناء، أو بسبب صراعات داخلية تنتهي إلى حروب طاحنة.

ولعلّ أبكر الخيانات، وربما أشدّها وطأة، ارتُكبت سنة 1918، حين نصّت مبادىء الرئيس الأمريكي وودرو ولسون على حقّ تقرير المصير لكلّ الأقليات غير التركية في ظلّ الدولة العثمانية؛ ثم حين نصّت اتفاقية سيفر، لعام 1920، على إقامة دولة كردية؛ لكي تأتي اتفاقية لوزان، 1923، فتوزّع المناطق التي يعيش فيها الكرد على الاتحاد السوفييتي وتركيا وإيران والعراق وسوريا. الخيانة التالية الأبرز جاءت كذلك من رئيس أمريكي، هو جورج بوش الأب؛ الذي حثّ الأكراد على التمرّد ضدّ نظام صدام حسين، ثمّ تخلى عنهم، وتركهم فريسة لطيران النظام العراقي ومدفعيته!

وعلى صعيد الأصدقاء الأفراد، في كتابه «نهاية العراق: كيف خلق العجز الأمريكي حرباً بلا نهاية»، يروي الأمريكي بيتر و. غالبريث أنّ الحاكم الأمريكي السابق للعراق بول بريمر، حين زار مكتب مسعود البارزاني للمرّة الأولى ورأى صورة والده الملا مصطفى معلّقة على الحائط، سأله: مَن هذا؟ وغالبريث ـ الذي مضى زمن عُدّ فيه ناطقاً غير رسمي باسم الكرد في أمريكا، و«شاهد عيان» تسلل ذات يوم إلى داخل العراق بدون إذن، وعاد يحمل الكثير من الوثائق حول قصف حلبجا بالأسلحة الكيماوية، قدّمها إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ـ يسوق حكاية بريمر لكي يذكّر الكرد بأنّ تجاربهم المريرة مع الغرب لم تنطو فصولها بعد، والقادم قد يكون أشدّ خطورة من الماضي.

فهل كانت تجربته، هو شخصياً، أقلّ مرارة؟ لقد وثق به الكرد في شمال العراق، فعمل مستشاراً خاصاً لدى مسعود البارزاني؛ ووضع كتاباً ثانياً متعاطفاً مع القضية الكردية، صدر سنة 2008 بعنوان «عواقب غير مقصودة: كيف قَوّت الحرب في العراق أعداء أمريكا»؛ وشارك في صياغة الوثيقة الدستورية لإقليم كردستان، لعام 2005… ثمّ اتضح، بعد عقود من العلاقة مع الشرائح العليا من القيادات الكردية، أنّ غالبريث كان يعمل أيضاً لصالح شركة النفط النرويجية DNO، وأنّ محكمة بريطانية حكمت له، في خريف 2010، بتعويضات من الشركة تتراوح بين 55 و75 مليون دولار (بالتقاسم مع شريك له، يمني الجنسية، للإنصاف!). كان غالبريث يتباهى دائماً بأنه صديق الكرد الصدوق، وأنه مستشار متطوّع؛ الأمر الذي لم يمنع تلك الصداقة، وذاك التطوع، من إكسابه عشرات الملايين من الدولارات!

وأمّا بصدد تحالف الـPKK/ الـPYD الراهن مع النظام السوري، فليست بعيدة في الزمن خيانة حافظ الأسد، وإبعاد أوجلان من سوريا والبقاع إلى المنفى، الذي سوف يقوده في نهاية المطاف إلى الاعتقال الراهن. كذلك فإنّ خيانات بشار الأسد للـPKK، ثمّ للكرد في سوريا عموماً، قريبة العهد، حين كانت علاقات أنقرة مع النظام السوري تسمح للاستخبارات التركية بعبور الحدود إلى القرى الكردية في الشمال السوري، وتصفية أو اختطاف كوادر الكرد.

يبقى التحالف الراهن مع الولايات المتحدة، حيث تتناسى قيادات قنديل (ولندعْ صالح مسلم جانباً) وقائع التواطؤ الأمريكي ـ التركي حول المسألة الكردية عموماً، وحقوق أكراد تركيا ومطامحهم بصفة خاصة. وكان ديدن الجنرال المتقاعد جوزيف رالستون (الذي تولى مهمة عجيبة اسمها «الموفد الأمريكي الخاصّ لمجابهة الـ PKK»!)، التشديد على رفض التفاوض مع أية جهة تمتّ بصلة إلى «هذه المنظمة الإرهابية» على حدّ تعبيره.

وهكذا، حتى ذلك الشيخ المناضل الملا مصطفى البارزاني لا يبدو نقطة إجماع في الحال الراهنة من اختصام الكرد؛ ولا حتى صمام أمان يقي قياداتهم من الانزلاق إلى أخطاء جديدة، أشدّ كارثية مما مضى.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى