صفحات الرأي

رسالة المثقف وذبابة سقراط/ محمد بودويك

 

 

لم تكن الثقافة على الهامش الاجتماعي والمجتمعي أبدا، ظلت، على العكس من ذلك، في صميم الواقع، مُرَمِّمَة وبانية ومشيدة، وفي قلب الهم الإنساني، أفقا للبحث المضني من أجل إقامة «مُثلى» على الأرض، وسكنٍ حقيق بالإنسان، سكنٍ تعرش باللغة والفكر، وَانْسَقَفَ بالمثابرة والاجتهاد والابتكار الدؤوب، خلال مديد الأعوام والعقود والقرون.

هيبة الطبقة الثقافية تَأتَّتْ من امتلاكها لسحر الكتابة والخطابة، والرأي حين تحبيره أو الصدع به. هكذا عاش الكهان، والرهبان، والأحبار، والشعراء، والأدباء المُتَرَسِّلُون، والمفكرون الفلاسفة، والعلماء والمُتَفَقِّهَة.

وهكذا لعبت «النفس الأمارة بالسوء» دورا معروفا معلوما في نجاح الطبقة الحاكمة، الحاكم بأمر الله لاستمالة عمرو، واستعصاء زيد على تلك الاستمالة، وما ذلك إلا لرهبة وخوف من لسان آدم، لسانه الذرب، والذلق، الفصيح، «السليط» السابر، الغاطس، والمُعَرِّي في آخر المطاف، ونَظَرٍ يقول ما يرى من دون مساحيق، ولا طلاسم، ولا مُعَمَيَّات. ومن ثمة، شهد تاريخ الإنسانية، قصصا مروعة من مشاهد القتل، والسحل، والصلب، والسجن، والنفي والإبعاد، والطمر الحي. وليس تاريخ العرب المسلمين بدعا بين التواريخ الإنسانية، بل قل إنه بين الأسوأ والأسود والقاني بما لا يقاس.

عرف الحكام، الطبقة السياسية المهيمنة، ما للثقافة والفكر، والقول المسنود الصريح من خطورة واستحواذ على العقول والألباب والأفئدة والوجدان، فسارعوا إلى ابتياع من سَهُلَ عليهم ابتياعه، وشراء ذمم ضعاف النفوس، الذين ينخطف قلبهم عند رؤية الذهب، ورؤية الجارية.

لكن أقوياء القلب، صُلْد العزائم والنفوس من فلاسفة ومفكرين، وشعراء، وعلماء متنورين، وقفوا في وجه الحاكم الزنيـم، وقاوموا الإغراء والإغواء، عبر الفضـــح والنشر، ورأب الصدع الأخلاقي الإنساني بقــول الحق الأبلج الأبيــض الذي يحرق ويصعق ويعري.

فمنذ سقراط الذي تحدث عن الذبابة الشهيرة: ذبابة الخيل التي تلسع.. والتي ليست كذباب البيوت والفضاء العام، في مجاز عال وقوي بمنطق تلك الأيام، بل وقبله في ليل التاريخ السحيق، كان للمثقف، للمفكر، الكلمة الفصل، والرأي الثاقب النبيه، والقول القاطع الحاسم في مجريات الواقع الاجتماعي، ومعيش المواطنين، وساكنة المدينة، وأسلوب السياسة المتبعة، وطريقة تدبير شؤون الناس.

فالمثقف بحاجة إلى تلك الذبابة التي تلسع دفعا للهدوء، ومحاربة للدعة والاستكانة والإذعان. وكان سقراط نفسه مثلا مشهودا على المثقف «العضوي» والمفكر «المندمج» والمنخرط في واقع وملابسات «أثينا»، وليس من شك في أن مفكرين قَادَةً قبله، لعبوا الدور عينه، فَقَضَّوْا مضاجع الحكام، وبرهنوا على نيابة شعبية معتبرة، عنوانها إخراج الفئات الشعبية من الحرمان، وتمتيعها بالكرامة والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم.

وفي التاريخ العربي ـ الإسلامي لاَ نَعْدَمُ اندماج المثقفين بجراحات مواطنيهم، ورفع عقيرتهم بالفضح والتعرية، ووضع اليد على سرقات الحاكمين والمتنفذين، وأكاذيبهم وأباطيلهم، ما عرضهم للمساءلة والمساومة والنفي، وصولا إلى القتل، والصلب، والتمثيل بجثامينهم، ولنا في المعتزلة والحلاج، و«الروافض» والشعراء وابن المقفع، وغيرهم، المثل الصارخ الذي يشير إلى الجريمة المقترفة في حقهم، وفي حق أفكارهم وآرائهم، ورَدَّاتِ فعلهم مما رأوه من الخلفاء والوزراء، واستبشعوه منهم. فقالوا كلمتهم التي لا تزال تضيء دمنا وطريقنا في العتمة، فيما هي تشير إلى قماءة وسفالة وحقارة الحاكمين الضعاف الذين استقووا بـ»الخونة» و«الباعة» و«الجواسيس» ليستأصلوهم، وما استأصلوا إلا ذِكْرَهُم وذِكْرَاهم هم لا ذكرى المثقفين اللامعين في سماء تاريخنا إلى أن يقبض الله روح الأرض، ويقضي أمرا كان مفعولا.

وإذا كان تاريخ الأمم الأخرى، الأمم الأسيوية المستعبدة في الزمن الإمبراطوري البعيد، والأمم المسيحية، لم يَخْلُ ـ بدوره ـ من محاكم تفتيش، وعبودية، ومطاردة للساحرات، وَسَحْلٍ، وبَقْرٍ، وقتل وصلب وتحريق، فإن الثقافة والفكر النير، لحسن الحظ، نجحا في إشاعة الرأي الحر، والإعلاء من قيمة التسآل والسؤال، وبسط الشك في الفكر والتدبير، والابتكار والاختراع، وإتيان الخارق والمعجز الذي كان «حكرا» على الدين، أو اجتهد بعضهم لـ»غايات» معروفة، وأخرى مسكوت عنها، لإضفاء تلك الخوارق والكرامات عليه، (على الدين) وأتباعه.. إلخ.

نُظٍرَ إلى العقل بوصفه أداة فيصلاً بين الحق والباطل، بين الكرامة والمذلة، بين السيادة والعبودية، بين الدين والدنيا، بين ما ينفع الناس بالملموس والمحسوس، وبين ما ينفعهم بعد موتهم. ومن ثمة، حصل، في عصر الأنوار، الفصل بين الدين والسياسة، بين الدولة والكنيسة، بين اللاهوت والفلسفة، بين الإنسان عظيما وسيدا، ومالكا لمصيره، وبين الإنسان خنوعا منبطحا منتظرا الجنة التي هناك عبر صكوك الغفران. ما يدل على تأسيس عهد جديد، وتاريخ أجد، قِوَامُهُ الاحتفاء بالإنسان، مخلوقا ومبدعا، ناصبا عقله ليسوي حياته القصيرة على الأرض، ويتمتع، بما ملك من مؤهلات وملكات، وطاقات وقدرات، بالعيش الكريم فيها. وعِمَادُهُ الفكر الحر، والنقد العقلاني البناء والخلاق، والشك العلمي المنهجي الموصل إلى الحقيقة، والآفاق القادمة الموجهة المؤسسة على هُدَى من العقل والتجربة، والمحك الواقعي، والمقارنة المتصلة المحيلة والمنشبكة مع ماضي الإنسان وحاضره ومستقبله المرتجى.

ففي هذا السياق، وفي ضوء ما سبق، يعلو اسم فولتير، وروسو، وديدرو، وإميل زولا، وفيكتور هيغو، وآخرين كُثْر. ولعل جريمة قتل جَانْ كَالاَسْ الفرنسي البروتسنتي العام 1762، جراء اهتياج وتعصب ديني كاثوليكي، والتي أريد لها أن تنطمس في غمرة الصراع الديني المذهبي، أن تكون وراء انتفاض الفيلسوف فولتير الذي أطلق صيحة مدوية من منفاه: «اسحقوا هذا العار»، وهو ما يشي بانخراط المثقف في قضايا عصره. وكذلك فعل روسو في كتاباته النيرة التي كانت مهادا مشعا للثورة الفرنسية، ومثلهما فعل زولا في مقالته الطويلة القوية المُعَنْوَنَة بـ»إني أتهم» والتي نشرها في صحيفة «الفجر» العام 1898، في صيغة رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية فيليكس فور بخصوص قضية الضابط اليهودي دريفوس.

وسيمشي على خطى هؤلاء الكبار ـ المنارات، فلاسفة ومفكرون وشعراء وأدباء (نساء ورجالا)، مغمورين بنور المعرفة والفكر، ومشبعين بتوصيات العقل وهدايته، وإرشاده لا غير. سيسمع العالم عن «المثقف الملتزم» الذي نحته سارتر، و«المثقف العضوي» الذي أبدعه أنطونيو غرامشي، وعن ميشيل فوكو وهو يحفر عميقا وجديدا في تاريخ الفكر والجنون والاجتماع، والقضايا المحرمة (الطابو)، وكذا بيير بورديو وجوليا كريستيفا وجيل دولوز وغيرهم، وغيرهم.

لقد كان للمثقف الدور الضارب، بما لا مجال معه للشك والاختلاف، في القضايا والملفات المطروحة على بساط البحث والنظر السياسي، والمقاربة الاقتصادية، والقراءة الثقافية والحفرية والاستبارية للمقولات والمسائل الخلافية، والطابوهات وغيرها. كان له الوقع الحي المُوَّار على واقع الناس المادي والروحي والعقلي. حيث شرعت العقليات في التبدل والتغير، وشرع الناس يفهمون أن ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، وأن الإيمان والتعبد، وممارسته الطقوس والشعائر الدينية، مسألة فردية وشخصية وحميمة، لا علاقة لها بالآخر، بالغير والشبيه الإنساني. وأن «اللاأدرية»، و«الإلحاد»، و«الحياد» الديني، شأن خاص كذلك لا حق لأحد مهما يكن، أن ينازع هذا الحق أو يطعن فيه، أو يُؤَثِّم صاحبه.

ولاشك أن هذه الحرية والاعتبار الإنسانيين، كانا وراء المصالحة النفسية للأوروبي والأمريكي والآسيوي مع نفسه ومع أشباهه، ومع مجتمعه. توقفت الحروب، والصراع المذهبي والطائفي، ونهضت الحضارة الإنسانية كأروع ما يكون، تسامى العلم والفن، وتسامى الإنسان بهما ومعهما. فهل يكون الفَلاَحُ الثقافي، والنجاح الحضاري، مشروطين ـ بالضرورة ـ بالقطيعة المادية والإبستمولوجية مع الدين؟ أي مع حرية الضمير والمعتقد، وحرية التدين من عدمها، وقطع السياسة مع الدين، إذ السياسة مفسدة له، والدين يبتعد عن الدين، عما جيء له ومن أجله، متى ما ارتبط واتصل بالسياسة حتى لا فكاك. وهو المطب والمصيبة الجُلَّى التي نعيشها راهنا في العالم العربي الذي يَهْذي بعض فرقائه وعِصاباته بوجوب إقامة الخلافة الإسلامية على الأرض، واقتلاع دابر الشر العالمي، وإقامة شرع الله على البسيطة.

قد يجرنا هذا الكلام إلى ما يسمى بـ «الجهل المؤسس» الذي تحدث عنه، مليا، المفكر محمد أركون، وهو الجهل الأخطبوطي المتغلغل في الأوساط الشعبية، بل وفي الأوساط «المتعلمة»، إذ أن التعليم، ومناهجه التي تحرص الدول العربية بوصفها أجهزة إيديولوجية تنتج وتعيد إنتاج إيديولوجيتها، غارق في الغيبيات، والماورائيات على مستوى ما يلقن للأطفال وللأحداث من دروس في «التربية الدينية» وما يمرره، خارج المقرر، معلمون وأساتذة أولو أدمغة ماضوية ورجعية تعادي الأديان الأخرى والغرب وأمريكا، والتقدم، والعلم، والتكنولوجيا، والميديا، والإنترنت وتُعَادي الفكر الحر. زِدْ على ذلك أن كثيرا من مضامين ومحتويات التعليم الرسمي بعيدة عن هموم وهواجس الإنسان في يومياته وواقعه ومستقبله.

ولاشك أن وضع المثقفين العرب وضع شاذ، يبعث على الشفقة والإعجاب في آن.

أما لماذا هذا التناقض، وما مَأْتَى هذا الشذوذ، فإنه يكمن، في واقع البلاد العربية، في تاريخها الراهن الذي يَنُوشُه الماضي بأعبائه وعوائقه، والحاضر بقلقة، وَتَحَدِّيهِ، والمستقبل بغموضه وتَأَبِيْهِ. رحم الله عهدا كان فيه الدكتور طه حسين ذا جاه أدبي، وسلطة معرفية رمزية، وتوجيه ثقافي مَهيب على رغم ما حاقه من أعداء الثقافة، وسدنة الماضي، وكهنة المعبد العتيق. وما دمنا ذَكَرْنَاهُ، فالأنسب أن نُذَكِّرَ بدوره الرائد في النهضة المصرية ـ العربية، والإنهاض من خلال أطاريحه، وكتبه، وأفكاره المضيئة: «مستقبل الثقافة في مصر»، وقبله: «في الشعر الجاهلي» الخ. فقد أَوْفَى الكلام وأغدق التوصيف، والتعبير عما نحن فيه، وما ينبغي لنا للخروج من ربقة التخلف، ونير العبودية والاسترزاق. وكان قد أجْمَلَ مباديء، ومفاهيم النهوض في ما يدور اليوم، وَيُدَاوَرُ بين المثقفين والشباب، حين «الربيع» العربي وقبله، وبعده.

غير أن الاستبداد السياسي والتعصب الديني حالا دون انتشار تلك الأفكار النيرات، وحال دون تغلغلها في العقلية والذهنية الجماهيرية، ومنعها من ترقيق الذوق، وإعلائه أناقة، ومسلكا، وثقافة، وموقفا حياتيا إزاء العالم والأشياء والكائنات.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى