صبحي حديديصفحات الثقافة

ريلكه في القيروان: إشكالية الإشكال/ صبحي حديدي

 

 

«الأدب الألماني بوصفه أدباً عالمياً» مجموعة دراسات أشرف توماس أوليفر بيبي على تحريرها، وصدرت قبل أسابيع، عن منشورات بلومزبري الأكاديمية؛ لا تناقش مفهوم الأدب العالمي من زوايا مقابلة لمفهوم الأدب الوطني، بل تطرح إشكاليات جمالية وثقافية أكثر تعقيداً. اللغة، على سبيل المثال، لا يمكن أن تشكّل معيار تقسيم رئيسياً في تصنيف الآداب المختلفة المكتوبة بها: العربية، بالنسبة إلى الآداب السورية أو العراقية أو الفلسطينية أو المصرية…؛ والإنكليزية، في بريطانيا وأمريكا وأستراليا وكندا…؛ والألمانية، في ألمانيا والنمسا وسويسرا ولوكسمبورغ… وهكذا.

الأدب العالمي، في منظور الكتاب، ليس أيضاً ذاك الذي يتصف بسمات كونية خالدة، وعابرة للقارات والحساسيات واللغات، سواء من حيث الموضوعات أو الأشكال أو الأجناس؛ بل هو هذا الأدب تحديداً، بعد أن تولّت إيصاله إلى العالمية مؤسسات متعددة الاختصاصات، في صناعة النشر والتبادل الثقافي تحديداً؛ وحمل أعباء تقديمه أفراد ذاع صيتهم عالمياً لأسباب شتى. كلّ هذا في غمرة افتقار فادح لنظرية نقدية متكاملة، وشافية، حول مفهوم الأدب العالمي، أو حتى تاريخه بالمعنى المدرسي الصرف.

وفصول الكتاب تتناول غوته، هوفمانشتال، ريلكه، بريشت، و. ج. سيبالد، رودولف يوكن، وبول فون هييس؛ لكن اللافت أنّ الأبحاث في عالمية هؤلاء الأدباء والفلاسفة لا تقارب مواقفهم الاستشراقية، وهي كثيرة وافرة في الواقع؛ ولا تنظر بعين ناقدة إلى تورّط بعضهم في مستويات من فهم «الآخر» قد تنتهي إلى نقيض الكونية، وإلى الانعزال القومي أو حتى الإقليمي والمحلي. أجدني، شخصياً، أستعيد استشراق ريلكه بصفة خاصة؛ وتحديداً حين اقتدى برحلة صديقه النحّات الفرنسي أوغست رودان إلى مصر، سنة 1907؛ وكان قد قرأ ترجمة «ألف ليلة وليلة»، فشدّته مناخاتها الشرقية؛ فقرر، في خريف 1910، السفر إلى شمال أفريقيا ومصر، أو «إلى الشرق، حيث ينبغي توسيع الحلم» كما سيقول بعدئذ. ولأنه كان يعاني من احتباس الشعر، فقد ارتأى أنّ رحلة مثل هذه يمكن أن تكون العلاج الذي يعيد الحيوية إلى نفسه المضطربة من جانب أوّل؛ ويمكن، من جانب ثانٍ، أن تكون «وثبة روحية نحو المجهول الفاتن»، الذي أخذ الشرق يمثّله في وجدانه.

وفي الجزائر، كما سيكتب إلى أندريه جيد، صعقه «الواقع المادّي الحاضر دائماً بشكل جديد ولانهائي»، رغم أنه جال في البلد وهو يعاني ــ مثل أيّ سائح أوروبي في الحقيقة ــ من قصور رؤية البلد على حقيقته. وبالطبع لن يكون أفضل حالاً من ألبير كامو، فرأى في الجزائر أرضاً فرنسية أوّلاً، ثم بحث في أزقّتها وشوارعها وبيوتها عن مناخات «ألف ليلة وليلة»: عن الحمّالين، والشحاذين، والسحرة، والنساء الشبقات. ثمّ غادر الجزائر إلى تونس، فمرّ على خرائب قرطاج قبل أن يصل إلى العاصمة؛ فلاحت له أكثر أمانة لمناخات الليالي العربية من الجزائر، بل اعتبر أنها «شرقية حقاً»… هو الذي لم يعرف الشرق إلا من خلال فلوبير ونرفال وحكايات شهرزاد!

وفي رسالة إلى زوجته كلارا، وعلى سبيل وصف انطباعاته عن مدينة القيروان الإسلامية العريقة، كتب يقول: «في الأسواق تقع أحياناً برهة خاطفة يستطع فيها المرء أنّ يتخيل عيد الميلاد: المنصّات الصغيرة ممتلئة بأشياء ملوّنة، والأقمشة وافرة ومدهشة، والذهب يلمع جذّاباً، وكأنّ المرء سوف يتلقّاه هديّة غداً. وحين يحلّ الليل، وبعيداً عن هذا كلّه، يضيء مصباح واحد ويتمايل، مهتاجاً بحضور كلّ شيء يقع عليه الضوء، عندها فإنّ ألف ليلة وليلة تحوّل كلّ ما اعتقد المرء أنه أمل ورغبة وإثارة، ويصبح عيد الميلاد غير عصيّ على المخيّلة في نهاية الأمر».

ومن الواضح أنّ ريلكه لم يبذل أيّ جهد في النظر إلى أجواء الأسواق بما هي عليه، وبما يمكن أن توحي به لمخيّلة لامعة ونشطة ومرهفة، قادرة على التوغّل العميق في باطن الأشياء قبل ظاهرها.

المشهد، بذلك، لا يتأسس اعتماداً على معطياته البصرية الخاصّة به وإنما على الصُوَر التي يستعيدها ريلكه من باطن التنميطات المستقرّة في وعيه الغربي، ومن العمل الوحيد الذي يشكّل دليله إلى الشرق: «ألف ليلة وليلة».

من المدهش، أيضاً، أنّ السوق يبدو طافحاً بالأشياء المادية (وخصوصاً الذهب الذي يتوق ريلكه إلى امتلاكه)؛ ولكنه يظلّ خالياً تماماً من العناصر الإنسانية، الأمر الذي يفاجئ حقاً إذْ يصدر عن شاعر خاض طويلاً وعميقاً في غمار النفس البشرية. ويبقى أنّ استذكار عيد الميلاد في هذه الأرض الإسلامية لا يخلو من دلالة مسيحية صرفة، خصوصاً وأنّ ريلكه كان في ذلك الطور من حياته متأثراً بالأجواء الصوفية ـ المسيحية التي دفعته إلى كتابة سلسلة قصائد «رؤى المسيح».

أليست هذه، بدورها، إشكالية كبرى في مناقشة مفهوم الأدب العالمي؟ وفي المقابل، أليس غيابها عن كتاب بيبي بمثابة… إشكالية الإشكال؟

صبحي حديدي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى