بدرالدين عرودكيصفحات الرأي

سرقة الفعل!/ بدر الدين عرودكي

 

 

تختتم رواية جيل القدر التي نشرها مطاع صفدي عام 1960بمشهد بطلها الرئيسي الذي كان قد التزم سياسياً وفعلياً في النضال من أجل الوحدة العربية يبكي في غرفته وحيداً وحزيناً عشية الاحتفال بالوحدة السورية المصرية عام 1958.

مفارقة غريبة. لكنها جسّدت مآل مجريات وقائع رواية تدور حول الإخفاق في إنجاز أي مشروع جماعي ذي معنى تاريخي إثر قيام آخرين بسرقة المشروع والوصول به وقد صاروا أبطاله إلى نهايته المطلوبة: الفشل المحقق.

ليست هذه الأمثولة إلا عنواناً لسلسلة من المشروعات الواقعية الكبرى التي حاولتها شعوب المنطقة العربية على امتداد أكثر من قرن، أي منذ أن عملت اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر من أجل العودة إلى المشاركة في صنع التاريخ بعد غياب شبه كامل عنه دام قروناً عدة، وحتى يومنا هذا، وكان آخر حلقاتها الحراك الثوري الذي انطلق قبل خمس سنوات من تونس وامتدّ على مساحة الأرض العربية كلها.

تعود أول حلقة إلى أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر حين تمَّ على أيدي روسيا آنئذ إيقاف مشروع إبراهيم باشا في ضمِّ بلاد الشام بعد الجزيرة العربية إلى مصر والسودان، ثم القضاء عليه بفضل الدعم البريطاني للسلطان العثماني. لم يبق من آثاره المادية إلا المطبعة العربية الأولى في لبنان التي تأسست عام 1834 واعتماد اللغة العربية في التعليم. سرقة الفعل، أو الفعل المضادّ هنا، لم يكن من صنع الداخل بقدر ما كان تعبيراً عن مصالح الإمبراطوريات الكبرى في تلك الحقبة ومطامع بعضها، كبريطانيا، في وضع يدها على المنطقة انطلاقاً من مصر، والتي ستقوم بتحقيقه قبل نهاية القرن نفسه من خلال احتلالها مصر ووضع يدها على قناة السويس.

لن تكون الحلقات التالية الأخرى من سرقة الفعل عملاً خارجياً بالضرورة، وربما كان أكثرها من صنع الداخل ذاته أو من صنع شراكة واعية أو غير واعية بين بعض قوى الداخل والقوى ذات المصلحة في الخارج من أجل إحباط أي مشروع جماعي في النهضة أو في الثورة. يمكن في حالة الثورات أن يُطلق على ذلك إجهاضاً أو ثورة مضادة كما هو شائع في الصحافة والأدبيات السياسية، أو ما هو أفضل منهما، سرقة الفعل، بما هو توصيف روائي يبدو مع ذلك أكثر دقة وتطابقاً مع الواقع من سواه.

لن نبحث كثيراً خلال السنوات الخمس الماضية كي نعثر لا على أمثلة عديدة في هذا المجال فحسب، بل وكذلك على الطرق التي تمَّت فيها سرقة الفعل الأساسي والجهات التي قامت أو لا تزال تقوم بسرقته على مرأى من الناس جميعاً. فمن وأَدَ الحلم هو من سرق الفعل، ولم يكن بالضرورة، من حيث الانتماء، أجنبياً ولا من حيث المبدأ عدوّاً وإن كان على الدوام خصماً.

تجسّدَ الفعل أساساً في الدعوة إلى إسقاط النظم الاستبدادية التي تجثم على مقاعد الحكم وعلى صدور البشر في طول العالم العربي وعرضه منذ مدَدٍ تتراوح بين ثلاثين إلى خمسين عاماً. لم يكن الهدف الخبز بل الكرامة، ولا الوظائف بل الحرية. وتراوحت ردود أفعال الأنظمة المُستهدفة بين قمع «مهذب» يستخدم خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع من أجل تفريق المتظاهرين وبين قمع وحشي وإجرامي يستخدم الرصاص الحي. بدا الفريق الأول أقرب إلى استخدام فنون المناورة والالتفاف على الخصم في تحقيق مآربه فنجح في استيعاب الصدمة ثم في استهلاكها ثم في الردِّ عليها ردّاً هو الآخر لا يعتمد المواجهة بل الالتفاف، وصولاً إلى العمل على استعادة السلطة من الشارع والعهدة بها إلى من لا يقدر بحكم طبيعته أن يتخلى عنها لسواه. لم يكن هذا الفريق شخصاً بل نظاماً، ولم تكن مصالح الفرد الذي كان ممثلاً له تتطابق بالضرورة مع مصالح مكونات النظام كلها، فأمكن التضحية به وببضعة أفراد آخرين مقابل المحافظة على الباقين، ولم يكن ذلك إلا لِذّرٍّ الرماد في العيون، وفي التراث: إنما الحرب خدعة!

لكن الفريق الآخر ولاسيما في سوريا، وقد خُدِعَ فعلاً من حيث لا يحتسب وكما اتضح فيما بعد بما جرى في تونس وفي مصر خصوصاً دون أن ينتبه إلى حقيقة ما كان يتم العمل عليه فيما وراء ما بدا انتصار الشارع، سار في طريق آخر، وكان هذا الطريق هو الرد بعنف لا حدود له: إما نحن (النظام بما في ذلك رأسه) أو أنتم (الشعب بأكمله)! استهجن الكثير من المراقبين في البداية خياراً بدا عسيراً على التحقيق ولاسيما في شقه الثاني: إذ هل يمكن القضاء على ملايين البشر في سبيل حفنة من أرباب المصالح أياً كان عددهم أو من طائفة أياً كان عدد أفرادها؟ سوى أن الوقائع المتوالية أثبتت خلال السنوات الخمس الماضية أن مثل هذا التساؤل لا يمكن أن يصدر إلا عن أفراد يجهلون تمام الجهل طبيعة ومكونات مثل هذه الأنظمة أو يتجاهلون تاريخها الحافل بالعنف والجريمة.

لكل بلد إغراءاته. هناك النفط، أو الغاز، أو الموقع الجغرافي أو كل ذلك معاً. لكن هناك أيضاً ميراث النظم ذاتها وما بنته خلال هيمنتها الطويلة المتمثل في الانقسامات القبلية، أو الطائفية، وأحياناً الجغرافية. ذلك ما يمكن أن يجعل هذه القوة الدولية أو تلك الإقليمية تراهن لاستعادة المبادرة على هذه الأسباب كلها أو بعضها للحفاظ على مصالحها. حدث ذلك ولا يزال في ليبيا، لكنه تجلى على نحو واضح في اليمن، وبصورة أشد جلاء وفحشاً في سوريا وذلك من خلال قوتيْن، إقليمية ودولية، إيران وروسيا، صارتا دولتيْن محتلتيْن بكل ما تعنيه كلمة احتلال من معنى: الأرض والقرار السياسي.

لم تكن سرقة الفعل، كما نرى، نتيجة مؤامرة. (ومما يحمل على السخرية أن من اعتمد نظرية المؤامرة سبباً إنما كانت الأنظمة ذاتها، ولاسيما النظام الأسدي الذي ارتقى بها إلى صفة المؤامرة الكونية!). كانت بالأحرى، وكما تبين مجريات الأحداث، نتيجة تضافر جملة من العناصر أتاحت الفرصة أمام مَنْ كان أكثر مراساً في العمل السياسي وأكثر خبرة في المناورة وأشد ارتباطاً بمصالحه الآنية كي يناور ويلتف على حدث تاريخي كالذي شهده العالم في العالم العربي اعتباراً من بداية عام 2011. لا يعني ذلك بالتأكيد أن القوى الخارجية غائبة عن مسرح الحدث أو عن المشاركة في صنعه. فهي كلية الحضور ولا شك، بل وكلية التأثير. سوى أن تأثيرها كان دوما ولا يزال مشروطاً سلباً أو إيجاباً بقدرة صانعي الفعل على احتلال الميدان بلا منازع.

لقد رأينا جميعاً والعالم معنا أن الأمر لم يكن على هذا النحو. أي لم تكن قوة الفعل قادرة على احتلال الميدان وعلى حماية فعلها. هل كان الفعل ذاته مؤامرة إذن؟ وضد من؟ ولماذا؟

لو كان الأمر كذلك لما كنا رأينا الناس يخرجون زرافات ووحداناً وهم يعرفون طبيعة الخطر الذي كان عليهم مواجهته، ما داموا قد حطموا جدار الخوف أصلاً. هناك إذن الفعل المنتظر، وهناك من كان يتطلع إلى القيام به لأنه صاحب المصلحة الأولى في إنجازه، وهناك من دفع إليه تنفيذا لخطة ما، وهناك أخيراً من سرقه لإعادة تأويله أو لتحويره أو للالتفاف عليه، أو في الحالة القصوى للقضاء عليه.

ولم يكن ذلك، مثلما سبق القول، حلقة أولى، ولن يكون أيضاً، الحلقة الأخيرة.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى