صبحي حديديصفحات الثقافة

علم الفلك ونصرة هوميروس/ صبحي حديدي

 

 

في «الأوديسة»، عشية عودة أوديسيوس (عوليس) إلى إيثاكا، وانتقامه الرهيب من عشّاق زوجته بنيلوبي؛ يروي هوميروس أنّ ثيوكليمنوس (أو «الكاهن الآبق» حسب ترجمة دريني خشبة الشهيرة، التي صدرت سنة 1945، بعنوان «الأوذيسة»)، يهتف بالخطّاب المتهتكين: «تعساً لكم أيها الأنجاس لقد سيءَ بكم! ماذا تخبيء لكم المقادير يا ترى؟ ما هذه الظلمات كأنها قِطَع الليل تغطس رؤوسكم وتزلزل أقدامكم؟ وما هذه الدموع تتصبب من عيونكم فتشوي خدودكم؟ أنظروا إن استطعتم! ما هذه الدماء التي تضرّج جدران القصر؟ ما هذه الأشباح التي تكظّ البهو الخالد؟ إنها تتهاوى إلى عالم الفناء، فويل لكم! أوه! وتلك آية أخرى، لقد كسفت الشمس فجأة وتوارت بالحجاب! الضباب الضباب! ما أروع الضباب ينتشر فيملأ ما بين الأرض والسماء!».

في عبارة أخرى، كان هوميروس، على لسان الكاهن، يتحدّث عن كسوف للشمس، في عمل أدبي ملحمي تناقلته الأجيال شفاهاً، وخضع نصّه المدوّن لعاديات الزمن. بعد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، سوف ينتصر لشعر هوميروس عالِمان ينتميان إلى عصرنا، استخدما أحدث تقنيات علوم الفيزياء والفلك. هذا ما انتهى إليه مارشيللو مانياسكو، رئيس قسم الفيزياء الرياضية في جامعة روكفلر، نيويورك؛ وزميله كونستانتينو بايكوزيس، رئيس المرصد الفلكي في لابلاتا، الأرجنتين: شاعر الإغريق الضرير، هوميروس، لم يكن يهرف بما لا يعرف، بل العكس هو الصحيح: كان يعرف… حقّ المعرفة، أيضاً.

لقد انكبّ الرجلان على تحليل جميع الأقمار الجديدة بين سنة 1250 و1125 قبل المسيح، وبلغ عددها 1684 قمراً، للبحث فيها عن تواريخ تطابق أحداث الأوديسة؛ فعثرا على يوم 16 نيسان (أبريل) 1178، الذي يصادف عند هوميروس تاريخ عودة عوليس، وتنفيذ مذبحة العشاق. ليس هذا فقط، بل إنّ سلسلة من الظواهر الطبيعية التي نجح مانياسكو وبايكوزيس في رصد تواريخ وقوعها، إنما تتطابق على نحو مذهل مع الظواهر ذاتها التي سردها هوميروس: قبل ستة أيام من المذبحة، كان كوكب الزهرة مرئياً في السماء، وعالياً؛ وقبل 29 يوماً، كانت مجموعة كواكب «بنات أطلس» و»بؤرطيس» (أو «راعي الشاء») مرئية بدورها عند الغروب؛ وقبل 33 يوماً، كان عطارد عالياً وقريباً من الطرف الغربي لمساره (في نصّ هوميروس يكون هرميس، التسمية الإغريقية لكوكب عطارد، على سفر لتسليم رسالة).

ليست هذه رياضة استكشاف مجانية من جانب العالمَيْن، كما أنها قد لا تضيف قيمة جمالية إلى الأوديسة، ولا تنتقص منها في المقابل؛ إذْ ليس التطابق بين الفنّ والواقع قلادة جودة أو وصمة رداءة بالضرورة، سيّما إذا جُرّد من جدليات اشتغاله داخل العمل الإبداعي، أو نُظر إليه على نحو ميكانيكي جامد. وفي نهاية المطاف، مَن يجرؤ اليوم على التكهّن بما اعتمل في مخيّلة هوميروس العبقرية تلك، التي أتاحت للإنسانية ولادة تحفتين مثل «الإلياذة» و»الأوديسة»، كُتبتا للرسوخ في الأبدية، وليس لأيّ عصر واحد أو حتى سلسلة عصور؟ وأيّ علم نفس، نظري أو سريري، يمكن أن يعطي جواباً شافياً على ذلك الحرص التوثيقي الذي هيمن على ذهنية شاعر كان يؤرّخ، ومؤرّخ كان يدوّن بروح الشاعر، حتى أنّ البعض يشكك في وجوده أصلاً؟

وكما هو معروف، تتناول نصوص هوميروس حرب طروادة، المدينة التي قد تكون قامت بالفعل على شواطئ آسيا الوسطى، ودُمّرت مرّات عديدة، بما في ذلك الخراب الذي حلّ بها أواسط 1200 قبل المسيح، (في أواخر القرن التاسع عشر كان هنريش شليمان، عالم الآثار الألماني، قد اكتشف ما اعتبره موقع طروادة الحالي). ولعلّ ذاكرة ذلك الانهيار ارتبطت بقصص سقوط المدينة، محوّلة حكاية تلك الحرب العتيقة إلى استعارة جبارة تصف تقويض الحضارات عن طريق الشهوة والعنف. معروف، كذلك، أنّ تلك القصص رُويت طيلة مئات السنين، ونُظمت قصائد ملحمية عديدة في وصف الحصار والاجتياح، ضاعت كلّها ما عدا الإلياذة والأوديسة. وهاتان وضعهما هوميروس شفهياً، ثمّ جرى تدوينهما لاحقاً، وأصبحتا توراة الأجيال التالية من الإغريق، الذين تلمسوا فيهما مزيجاً فريداً من التاريخ والشعر معاً، وارتقوا بهما إلى مصافّ السردية الوطنية الكبرى.

ولعلّ وقائع حصار طروادة، ثمّ سقوطها وتدميرها، صنعت الحكاية غير الدينية الأكثر سرداً وتناقلاً وإلهاماً واستلهاماً على مدى التاريخ؛ فتوفّرت، في كلّ الأحقاب الرئيسية من عمر البشرية، هذه الحزمة أو تلك من الشروط التي تشجّع على استثمارها، بما يخدم سلسلة أغراض سياسية وأيديولوجية وسياسية وثقافية. والآن حان دور علوم الفلك، كما يلوح؛ فلِمَ لا… في نهاية المطاف!

صبحي حديدي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى