صفحات الناس

عندما يتحول بيتك إلى زنزانة اعتقالك… قصة عائلة سورية فرت إلى تركيا من تعذيب النظام/ لبنى زاعور

 

 

إسطنبول ـ «القدس العربي»: عندما يتحول بيتك إلى ثكنة عسكرية، وتصبح جدرانه الإسمنتية أغلالا من حديد تقيّد حياتك في كل زاوية منها، حين يصير بيتك معتقلا.

التقيت «القدس العربي» مع «أم باسم « في إسطنبول التي فرت من سوريا مع أولادها خوفاً من احتمال موت آخر، بعد أن نجت من سابق كان محتما، تجربتها القاسية جعلتها كل الوقت خائفة، حتى في الأماكن العامة في إسطنبول، كانت تتحدث بصوت منخفض مع طأطأة رأسها خوفاً من أن يسمعها أحد، تواصلت مع «القدس العربي» من أجل البحث عن مركز يعنى بالأطفال المتضررين نفسياً من آثام الحرب في سوريا.

«أم باسم» لديها ثلاثة أولاد: «سهى 14 سنة، باسم 5 سنوات، مانيا 8 سنوات»، يعاني ابنها باسم من رهاب شديد وتلعثم في الكلام ورجفة ترافقه أثناء حديثه نتيجة التجرية القاسية التي مر بها في سوريا.

في مساء يوم الاثنين 15 من شهر حزيران/يونيو 2013 قام أكثر من 40 عنصراً تابعين لفرع الجوية بتطويق المبنى الذي تقطن فيه «أم باسم» مع زوجها الكائن في مشروع دمر بدمشق.

استخدم الأمن المكبرات الصوتية طالبين من سكان المبنى اتخاذ الاحتياطات اللازمة فيما إذا حصلت اشتباكات مع عصابة مسلحة تقطن في المبنى، تقول «أم باسم»: «لم أكن أعلم أن منزلي هو المقصود، فقد أطعنا أوامر الأمن، واختبأنا في إحدى غرف المنزل الداخلية».

مع مرور عدة دقائق اقتحم الأمن منزل «أم باسم» بعد كسر الباب، وانتشروا في أرجائه، وصرخ أحد العناصر مشيراً إلى الغرفة المختبئين فيها «سيدي لقيناهم»، جاء المسؤول عن العناصر وكبيرهم تقدم نحو «أبو باسم» وقال له: «عامل عيلتك وولادك درع بشري، والله توقعنا نلاقي كتيبة إرهابية بالبيت».

بدأت «أم باسم» تتوسل إلى العناصر ليتركوا العائلة وِشأنها، وبأنهم بريئين من أي تهمة ملتصقة بهم، ومن ثم قاموا بتفتيش الزوج والزوجة وصرخوا بوجه الأطفال لإخافتهم وإسكاتهم عن البكاء.

أثناء اقتياد الزوج إلى خارج حدود المنزل، تروي «أم باسم» هذه اللحظات: «كان وجه زوجي شاحباً وكأنه يناجي الأرض بأن تسحبه إلى جوفها، وصار يبكي بصوت عال يتوسل الأمن للسماح له بوداعنا ووداع أطفاله، كان يصرخ ويقول: هدول ولاد ما دخلهن بشي، الله يوفقك يا سيدي تركهن يروحوا على بيت جدهن، ودعني بنظرة أخيرة ، كانت المرة الأخيرة التي أرى فيها وجه زوجي الذي عشت معه أكثر من عشرين سنة».

بانتظار المجزرة

قام عناصر الأمن بإغلاق النوافذ، وبدأوا بتفتيش المنزل بشكل دقيق، فمزقوا فراش اﻷسرة ونزعوا خشب الأبواب وباشروا بتفتيش المطبخ وخزائنه، لم يتركوا شيئاً في طريقهم إلا وفتشوه.

شعرت «أم باسم» أن نهايتها مع أولادها أصبحت وشيكة، وبدأت تستحضر في ذاكرتها مشاهد الاقتحامات والمجازر التي تحصل بعدها، فتقول: «بدأت أتوجس موتي وأتحسس رقاب أطفالي. في مثل تلك اللحظات لا يحضر إلى ذاكرتك سوى مشاهد المجازر ورائحتها، تذكرت سكاكين المطبخ وتمنيت لو أنني قمت بسنها لتكون حادة علينا ويخف العذاب في لحظات الموت».

وضعوا «أم باسم» وأولادها في غرفة داخلية بالمنزل وقاموا بتكميم أفواههم بالملابس التي بعثروها، وحضر كبير المسؤولين عن العناصر الذي كانوا ينادونه بـ «النقيب أبو دياب» ، وبدأ يركلهم بحذائه و من حوله عناصره يشتمون الأم والأولاد ويضربونهم بالأكبال، ويتهمونهم بالتعامل مع الإرهابيين.

وتقول أم باسم «بعد الانتهاء من ضربنا بساعات، طلبني النقيب أبو دياب وأمرني بطاعتهم والامتثال إلى أوامرهم، فأخذ أجهزة الاتصال والحواسيب المحمولة، والهاتف وطلب مني أن أدخل لغرفة لنوم مع أطفالي، وعدم التحرك من الغرفة ووضع أحد العناصر على الباب، كانت من أسوأ الليالي التي عشتها».

في اليوم التالي، استيقظت «أم باسم» وكان بيتها يعج بالعناصر الذي وصل عددهم إلى 17 عنصراً، طلبوا منها تحضير الفطور والكف عن البكاء.

كانوا قد أحضروا مهندس اتصال لتشغيل برامج الاتصال على أجهزة الموبايل والكمبيوتر وكلما اتصل أحد أصدقاء زوجها «أبو باسم» كانوا ينادون «أم باسم» لترد وتأخذ المعلومات وتوهم المتصل أن وضعهم بخير و زوجها خرج من المنزل لزيارة أهله.

وتقول «أم باسم»: «كانوا يراقبون الاتصالات ويجبرونني على الرد يومياً، ويسجلون المحادثات والمعلومات، وفي اليوم الخامس على تواجدهم في منزلي، اتصلت أختي «فاطمة» على الهاتف الأرضي مشغولة البال، وأخبرتني إنها تنوي الحضور إلى منزلي، حاولت إيهامها أنني مشغولة بأعمال المنزل لكنها أبت ذلك، وجاءت إلى المنزل خلال ساعة ﻷنها شعرت بأن هناك شيء ما يحصل لنا، فقام أحد العناصر باقتيادها إلى الداخل وبدأ التحقيق معها، وتفتيش جهازها، ومنعوها من الخروج من المنزل لتبقى معنا بقية فترة الاعتقال».

كانت الأيام تمر بقسوة وصعوبة، وكان يتم تعذيب العائلة المعتقلة لفترات طويلة خلال تلك الأيام، تقول «أم باسم»: «كان اليوم الحادي عشر من أسوأ أيام الاعتقال، في وقت المساء وبعد أن جاء اتصال لأبو دياب يخبره بأن صديقه قُتل على الحاجز، هجم على أطفالي وبدأ يركلهم بقدمه، ثم قيدني بالكرسي في الصالون مع أختي وبدأ يضربهم ويجلدهم أمامي، ويشتمنا بأقذر الألفاظ، لم ينم ابني باسم تلك الليلة، بقي لساعات يشهق ويرتجف من دون بكاء، توسلت العناصر لإحضار طبيب له لكنهم رفضوا»، 25 يوماً مروا على اعتقال عائلة «أم باسم» في بيتها الذي تحول إلى ثكنة عسكرية، ذاقوا خلالها الويلات والتعذيب والإقامة القسرية.

في اليوم الأخير قام عناصر الأمن بإخراج «أم باسم» من منزلها وقاموا باعتقالها في فرع الجوية في المزة وسط دمشق، وبالإفراج عن الأطفال وخالتهم «فاطمة» بعد أن أخرجوهم من منزلهم، لم تعرف «أم باسم» مصير أولادها الذين بقوا في المنزل إلا بعد سبعة شهور من الاعتقال، وبعدها لم تعد «أم باسم» إلى منزلها أبداً، وهربت مع أولادها بعد خروجها من المعتقل بأيام إلى تركيا، وما زالت تنتظر خروج زوجها من المعتقل، فمنذ اقتحام منزلهم لم تسمع عنه أي معلومة، ولا تعرف إذا ما زال على قيد الحياة أو انه استشهد تحت التعذيب.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى