صبحي حديديصفحات الثقافة

غابة القراءة ومسالك التأويل/ صبحي حديدي

 

 

في «دلائل الإعجاز» يخاطب عبد القاهر الجرجاني القارئ، فيقول: «وجملة ما أردت أن أبيّنه لك: أنه لا بدّ لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهةٌ معلومة وعلّة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل. وهو باب في العلم إذا فتحتَه اطّلعت منه على فوائد جليلة، ومعان شريفة، ورأيتَ له أثراً في الدين عظيماً وفائدة جسيمة، ووجدته سبباً إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل وإصلاح أنواع الخلل فيما يتعلق بالتأويل، وإنه ليؤمنّك من أن تغــــــالط في دعــواك، وتدافع عن مغزاك، ويربأ بك عن أن تستبين هدى ثم لا تُهدى إليه، وتدلّ بعرفان ثم لا تستطيع أن تدلّ عليه، وأن تكون عالماً في ظاهر مقلّد، ومستبيناً في صورة شاكّ».

ولعلّ هذا النصّ أحد ألمع تعبيرات التراث النقدي العربي عن مسألة استجابة القارئ، أو تلك المدرسة النقدية الغربية التي تستهدف ترسيخ مبدأ العودة إلى طرف أساسي فاعل في سيرورة القراءة؛ حتى في ما يخصّ النصوص المقدسة، والتنزيل، وحُسن التأويل. والناقد البريطاني تيري إيغلتون لا يجانب الصواب كثيراً حين يقول إنّ في الوسع تحقيب تاريخ النظرية الأدبية الحديثة إلى ثلاث مراحل: الانشغال بالمؤلّف (المدرسة الرومانتيكية، والقرن الثامن عشر)؛ والانشغال الحصري بالنصّ (مدرسة «النقد الجديد»، في أمريكا النصف الأول من القرن العشرين خصوصاً)؛ والنقلة الملحوظة نحو الاهتمام بالقارئ، في العقود الأخيرة.

ولكنّ السؤال الآخر، الأشدّ استعصاء في الواقع، هو ذاك الذي يبحث عن «هوية» القارئ، أساساً؛ وما إذا كان من الممكن حصر تلك الهوية، أو الهويات بالأحرى، في خطوط استجابة معيارية، على أيّ نحو منهجي. غلاف الطبعة السابعة (1992) من كتاب «نقد استجابة القارئ»، الذي أشرفت على تحريره جين تومبكنز وصدر للمرّة الأولى عام 1980 وأصبح بعدئذ مرجعاً كلاسيكياً في دراسة نظريات النقد المنشغلة بالعلاقة بين القارئ والنصّ؛ يحمل رسماً كاريكاتيريا طريفاً، ولكنه بالغ التعبير عن محتوى الكتاب، وعن طبائع القارئ والقراءة استطراداً: ثمة امرأة تقف في حافلة عامّة، تقرأ في كتاب مفتوح، مقطّبة الحاجبين وجدّية الملامح؛ على يمينها يتطفّل رجل يقرأ الصفحة ذاتها من الكتاب، ولكنّ دموعه تسيل مدرارةً؛ على يسارها يتطفّل رجل ثانٍ يقرأ الصفحة ذاتها، ولكنه يكاد يسقط على قفاه… ضحكاً!

قراءة واحدة، ثلاثة قرّاء، وثلاث استجابات مختلفة تتراوح بين الجدّ والهزل والبكاء. لماذا؟ وكيف حدث أنّ النصّ ذاته استدعى هذه القراءات الثلاث في آن معاً، في الزمن الواحد ذاته، وفي المكان الواحد ذاته؟

أسئلة أخرى، أكثر تعقيداً، يمكن أن تنجم عن هذا الموقف الطريف الدالّ، بينها الطائفة التالية: ما مصدر السلطة التي تخوّل الحقّ في تأويل القراءة هكذا، بين جدّ وبكاء وهزل؟ هل النصّ هو الذي يحدّد القراءة، أم استجابات القارئ الذاتية، أم العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، أم أعراف القراءة في مجتمع ما، في برهة زمنية ـ تاريخية ما، أم جماع ذلك كله؟ وهل توجد، بالفعل، قراءة صحيحة أو سليمة؟ وإذا صحّ ذلك، فكيف في وسعنا أن نقول عن قراءة ما إنها صحيحة، وعن أخرى إنها خاطئة؟ هل توجد «أخلاقيات» قراءة؟ إلى أيّ حدّ نستطيع الجزم بأنّ العالم، المحيط بالقارئ والقراءة والنصّ، مُنشَأ ثقافياً أو مستقلّ جوهرانياً؟ وكيف تؤثّر حدود جزمنا ذاك، في ممارسة القراءة وحرّيات التأويل؟ والفراغ ــ التاريخي، والثقافي، والأسلوبي، والدلالي ــ بين القارئ والمؤلّف، كيف يُملأ؟ وفي حال تحوّل ذلك الفراغ إلى هوّة، فكيف تُردم؟

وفي الإجمال تبدو الأسئلة الثلاثة الأولى وكأنها تختصر المسألة بأسرها، غير أنّ محاولة الإجابة عنها ليست بالسهولة التي قد تلوح للوهلة الأولى؛ وهي، في كلّ حال، لا تُختزل إلى تلك الإجابة الغريزية التي تقول ببساطة: القراءة هي القراءة، والقارئ هو القارئ، فعلام العناء إذن؟ ولكن… كيف تكون القراءة هي القراءة إذا كنّا، في سياق الحياة اليومية، لا نتحدّث عن قراءة الكتب والمجلات والصحف وحدها؛ بل نتحدث أيضاً عن «قراءة اللوحة»، و»قراءة المنحوتة»، و»قراءة المقطوعة الموسيقية»، و»قراءة الملامح»، و»قراءة الأحداث»، و»قراءة النوايا»، و… «قراءة الكفّ»، على سبيل الأمثلة فقط؟

وكيف يمكن أن يكون القارئ هو القارئ، قياساً على تباين الحساسيات الثقافية والفكرية والجمالية، أو الميول التأويلية، أو الجنس (ذكر/ أنثى)، أو الموقع الجغرافي (دمشق، القدس، باريس)، أو التجربة القرائية (قارئ مواظب/ قارئ جديد)، أو السنّ، والتحصيل الدراسي، وما إلى ذلك؟

ليس غريباً، في ظلّ غابة الأسئلة هذه، أن يعكف النقاد ومنظّرو الأدب، أسوة بالجامعات والمؤتمرات، على تلمّس إجابات شتى؛ بعضها شافٍ، نسبياً أو في الحدود الدنيا؛ وبعضها أسئلة جديدة تزدحم بها، وتعيد طرحها، المسالك الوعرة في قلب الغابة. «إقرأ»، قال فعل الأمر في أوّل التنزيل، ولم تكن إجابة النبيّ كافية ضمن منطقها الصحيح، أو مكتفية في ذاتها الفعلية؛ «علّم الإنسان ما لم يعلم»، تابع الوحي، وانبسطت عتبات التأويل!

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى