صفحات الثقافة

”فايّتون” سوري/ منصف الوهايبي

 

 

 

إلى «أبوعلي ياسين… إلى رشيدة… ذكرى صيف اللاذقيّة 1991»

مطرٌ على الميناءِ يغسِلُ ثلجهُ.. بِلّوْرةٌ مَوْشورَةٌ.. هذا الصباح؛ ونحن ننزلُ من سفينتنا.

على الأثوابِ بعضُ نُثار أوراقٍ ملوّنةٍ، فهذا كرنفالِ البحرِ؛ هذي رحلة أخرى مسلسلةٌ، لنا شعبَ الملاحة.. إنجكلِيزَ الأعْصُرِ الأولى.. وهذي حلْقة منها.

على ظهر السفينة، كنتُ أحصيهمْ وأنسى كلّ من فُقدوا.. هنا.. في البحرِ.. موتٌ سابقٌ لأوانهِ.. موتٌ له توقيتُهُ الفلَكِيُّ.. لكنْ قد يُسوّفُنا حينًا.. وليس لديهِ وقتٌ للفراغِ..

وكنتُ أنسانِي.. أنا ابنَ سلالةٍ ضاعتْ.. هنالكَ.. والدخيلَ أنا عليهمْ.. مثل لفظٍ مستعارٍ.. قلتُ هذا وَسْمُ أبقارٍ.. وهذا عيدُها.. ألصِقْ عليها الاسمَ.. جهّزْها لبورصتها.. لسوقٍ تابعٍ فيها.. ألستَ ترى مساميرَ المسيحِ.. ندوبَهُ.. في جلدِها؟

ضحكاتنا مسلوخةٌ.. قبلاتُنا ملْحٌ.. ولكنّ الرحيل اللغزَ كان يعيدُني أبدا إليّ.. أكنتُ في قحْف السلاحفِ.. بدون أن أدري؟ أكنّا نحتمي منّا به؟

والبحر مثلي.. في الصباح.. مزاجه متقلّبٌ.. في وَكْنهِ الصخريّ.. جلْدٌ كامِدٌ .. لولا زُمُرَّدُ نخلةٍ.. في مَكْسَرُ الأمواجِ.. لولا عيْنُ ضحكتِها!

* * *

غرناطةٌ رمّانةٌ معشوقةٌ.. في سُوقِ أشجارٍ بها.. مقطوعةٍ.. كنّا نبتْنا.. نحنُ أحفادَ الشآمِيّينَ..

كنتُ ذكرتُها حتّى نسيتُ رسومَها.. ونسيتُ أنّ لصمتِها آثارَ أقدامٍ وأيْدٍ.. من أبي، كانت، وأمّي..

* * *

في السجن كان حساؤنا من حنطةٍ سوداءَ.. من ثمَر البَنادُوري .. بلونٍ أصفرٍ يسمرُّ.. أو يزرقُّ.. في سجن الرفاق أقول لـ»كابو»: ـ أنا يا سيّدي من حزب بكداش!

ـ شيوعيٌّ! إذنْ!

سلّمتَ عقلك للفنونِ.. وللجنونِ.. وجئتنا..لأحوّلنّكُمُ جميعًا يا مُسُوخَ الرائبِ الكِلْسيّ فطْرًا مثل بُوق الميّتينَ.. السجن مثل الموتِ.. كان جدارنا الأعمى.. به أعوامُنا الحيّاتُ إذ تلوِي على أذنابها وتعضُّها.. وتعضُّنا.. متقيّئا موتِي..على قدَمٍ معلّقةٍ.. وأخرى مثلِها مسْحاء.. أو فطحاء.. ثابتةٍ.. وفي صحراء تدمرَ.. كلّ صيفٍ نحن نسمع في عنابرنا نشيشَ نُخاعنا الشوكيّ إذ يغلي على مهلٍ.. وكلب السجن من جوع.. ومن شبعٍ.. يمدّ لسانه الناريّ لي.. (سمّيتهُ كلبَ الرقيم) وقلتُ ذا فرْنُ الحِدادةِ.. كهفنا.. لا كوّةٌ.. منها نطلّ على الحياةِ.. ولا على أسرار ما بعد الطبيعة.. كنتُ أعرفُ أنّ في التوراةِ إنجيلاً.. وفي القرآن توراةً..وفي التوراةِ ألواحَ العراقيّين.. في ألواحهمْ.. ألواحَ أوغاريتَ.. كان إلهُنا القمريُّ.. يُولَد في العراقِ.. على ضفافِ النهر.. كان طعامَهُ الحلزونُ والأعشابُ.. والأسماكُ؛

مذْ كانتْ له سُفنٌ تشقّ الريحَ.. ثيرانٌ مجنّحةٌ.. من العصرِ الطباشِيريِّ..أفراسٌ نمورٌ.. لم تزلْ بجلاجلٍ خُضْرٍ.. وأجراسٍ مُصلصِلةٍ.. تُهَدْهِدُ نومَنا.. من كلِّ حَدْبٍ كان يَنْسِلُ.. مرّة في الشامِ.. ينسِلُ مرّةً أخرى بِوادٍ غيرِ ذي زرْعٍ…

هو التاجُ المشكّلُ لمْ يزلْ مستنبتًا أجسادَنا مثل الحقولِ، ونحنُ مثل عُرى النباتِ.. وقد تلبّدَ في الترابِ.. ونحنُ أغنيةٌ تُغنّي وحدها أبدًا.. ذكورُ النحلِ.. ترتيلُ الكنائسِ والمساجدِ نحنُ.. لِمْ يحتشّنا في البحرِ، منجلُ مائهِ؟

أجسادُنا ليست لنا

حَلبيّةٌ علقتْ بنا في صدْرِ عُودٍ.. نصْفِ كُمَّثْرَى.. وكان الليلُ يهبطُ باردًا في ليلِ صيدْنايا..

***

في «مسرحيّات العباءةِ.. مسرحيّات السيوفِ» ظهرتُ.. دوري صامتٌ.. في المسرحِ الخشبيِّ ـ أذكرُـ نصْفَ عارٍ كنت في كلّ المشاهد.. لم أحبَّ بها سوى اللقطاءِ من أبناء أبولو..

وُلدتُ لأبيضيْنِ مولّدين..نشأتُ.. في بحر الزقاق.. درجتُ في مستعمراتِ الإنكليزِ.. عملتُ في حاناتِ»جبرلتارَ».. كنتُ بسَحْنةٍ بيضاءَ.. مثل أمير طنجةَ طارقٍ.. لغتي مزيجٌ.. مثله.

حتى إذا ما لوّحتني الشمسُ..صارت سحنتي مثل الرماد.. وأنت تعرفُ نحنُ زُطٌّ مثل أسماكِ الحريدِ.. الببّغاواتِ انجرفنا ذاتَ ليلٍ.. نحو هذا الساحل الصخريِّ حيث لقِيت «لِينا».. البحرُ سطحٌ مائلٌ..أمواجهُ مبرومةٌ ورقًا فتيلاً.. لا خطوطَ هناكَ.. لا ألوانَ.. لا أشكالَ..

ـ قل! هل كان هذا البحرُ سجنيَ في براري تدمرٍ؟ لولا سمائي هذه بكتابةٍ نجميّةٍ.. لولاكِ.. لولا شِعْبُ مَرجانٍ.. يرفُّ.. وصخرةٌ تطفو.. ولولا الطحلبُ البحريُّ.. هذا السرجَسُ.. الرملُ المحاريُّ.. سفينةٌ ميّالةٌ.. والبحرُ بالمقلوبِ.. من موجٍ إلى موجٍ.. يُقاذفنا.. ونحن هناك كالسردينِ محشورونَ.. كالسردينِ مكبوسونَ نحن بخوفنا..

ـ هذي اهتزازاتُ السفينةِ.. لا تخفْ!

ـ لابدّ لي من رِجْل بحّارٍ إذن !

***

وأنا كميشي في المناقع كنتُ والأنهارِ حيث معا تعلّمنا كلامَ العشبِ والأحجارِ.. صادقنا النوارسَ.. نحنُ نعرفُ من كلام الطائر البحريِّ إنْ كانت ستمطرُ.. أو ستصحُو.. من نساء الليل إذ يقبلنَ كالأنهار.. من معجونِ مَرْمَرِها.. وأبْرصِ ثلجها في خضرةِ الأشجارِ.. إنْ كانتْ ستدفَأُ.. أو ستبرُدُ.. كيْ نُعدّ شرابنا.

ـ والثلجُ وسْمُ نُدوبِ ليليَ في ذُرَى طَرْطوسَ.. في القلمونِ.. في وادي النصارَى.. ضوءُ عطْرِ عوائدِي فيها.. وقد نسجتهُ بِيضُ خيوطِه أو سُودُها

والليلُ يهبطُ باردًا في ليلِ تدمرَ كانَ أو في ليلِ صيدْنايا..

***

غرناطةٌ.. كنّا نسمّيها»غْرينادا».. أيُّ ثدْيٍ في يَدِي يومًا تكوّرَ.. دارَ بي.. فيها.. ودوّرني..على إيقاعِها.. كمصارعِ الثيرانِ في حلباتِها!؟

لكنّ لينا، كلّما ضاق المكان تقولُ للحبّ المحطّاتُ.. القطاراتُ.. الحدائقُ.. أينما ولّيتَ.. ثمّ لنا مكانٌ مُخْمَليٌّ.. حُجْرةٌ في السطحِ مائلةٌ.. رواقٌ خارجيٌّ.. لا يَهُمُّ.. لنا سريرٌ من حجارٍ هشّةٍ.. أو صلبةٍ.. متقشّفٌ.. مقصورةٌ في مسرحٍ.. ولنا دمشقيّاتُنا.. أزهارُها أختُ الحوافرِ.. شُدَّني.. كالثور من قرْنيَّ.. ضيّقةٌ أنا كالكارزاس.. تصيحُ.. هذي موجةُ القعرِ.. انتظرْ.. لا تستحثَّ النسغَ! تسمعُها! هنا في حَلْقتَيْ رَحِمِي!؟ وفي لبَنِي النباتيّ المروّب.. شُدَّ عِجلتكَ الرضيعةَ.. شدّني..

سنتي الكبيسةُ أنت.. يومي زائدًا فيها.. ويمكنُ أن أحبّكَ من هنا.. حتى ضفافِ اللاذقيّةِ.. شدّني..

ـ رحمي.. أتعني البحر؟ لولا الميمُ.. لولا الباءُ.. هل تدري؟ لقد سمّاه أجدادي أعاريبُ الصحارى بحرَهمْ!

***

ـ قلْ لي أهذا زورقٌ أم قفّة؟ والبحرُ..هذا السلْحُفائِيُّ المُقوّسُ.. ليس دجلةَ.. كيف أحملهم إذن.. أطفالنا؟ (تعني مُسُوخَ الرائبِ الكِلْسيِّ)

ـ لا..هذي مُعدّيةٌ لنعبر.. لا تخافي.. ذا صدى موجٍ.. أنا ابن اللاذقيّةِ.. هذه ريحٌ تهبّ من البراري.. لا تخافي.. الموجُ لن يعْلُو.. سننزلُ عند تلك الضفّة الأخرى.. إذنْ لا خوفَ.. لي مصباحُ صيّادينَ.. أبعدَ.. لاصِفٌ..

ـ هذي اللوائحُ ليس فيها اسمي.. إذن أدْرِجْهُ في كشْفٍ جديدٍ.. قلْ لهمْ

أسماؤنا نحنُ الشآميّين.. من أسماءِ موتانا.. وفي السككِ الحديدِ.. قطارنا متعرّجٌ أبدا.. وذا قفصٌ لنا مذْ نحنُ كنّا في حِباكِ حظيرةٍ قصبٍ.. ومصباحي تكسّر كيف أسبكه إذنْ؟

***

ليلاً يعود الميّتونَ.. إلى البيوتِ.. البحرُ يلفظُ صامتًا أسماءهمْ.. يستصرخونَ.. ونحن نسمعهمْ.. نشمُّ روائحَ الحيتانِ في أصواتهمْ.. يَسْتنبِحُونَ.. نباحُهمْ لا يوقظ الأطفالَ.. أسمعهُ.. ولِينا جانبي: «من كان ينبحُ؟ أنتَ؟» رُعْبُ طفولةٍ رشحتْ بأسنانِ الحليبِ.. رصاصةٌ سلختْ سوادَ الليلِ.. صوتُ أبي هنالك في جبال اللاذقيّةِ إذ ينادي بالكلابِ.. لكيْ تعودَ.. صياحُ صيّادينَ..»هذي أرنبٌ أخطأتُها».. أنثى الصقورِ.. تحطّ واجمةً على أكتافهم.. درّاجتي انفلتتْ.. هنالك في الشعابِ.. وكنتُ أركضُ خلفها.. لمّا تزل تجري.. وكلب السجن خلفي.. في براري تدمرٍ.. ما زالَ ينبحُني ولمْ..

فيما ظلال طرائدٍ مذعورةٍ كانت تعودُ إلى مكامِنها.. ولمْ تعدِ الكلابُ..

ناقد تونسي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى